ذكر السيد أبو طالب عليه السلام يحيى بن زيد، أمه: رايطة، ويقال: ريطة بنت أبي هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية لا عقب له، وعيسى، ومحمد، والحسين، أمهم واحدة وهي: أم ولد أعقب هؤلاء الثلاثة من ولده عليه السلام.
مقتله ومبلغ عمره عليه السلام:
رماه داود بن كيسان من أصحاب يوسف بن عمر بنشابة فأصاب جبينه، فأمر للطبيب فعرفه أنه إن نزعها مات من ساعته، فقال عليه السلام: الموت أهون عليَّ مما أنا فيه، فعهد عليه السلام عهده وأوصى وصيته، وكان من وصيته إلى ابنه يحيى عليه السلام أن قال: يا بني جاهدهم فوالله إنك لعلى الحق وإنهم لعلى الباطل، وإن قتلاك لفي الجنة وإن قتلاهم لفي النار، ثم نزعت النشابة منه فقضى من حينه سلام الله عليه، وكان ذلك في عشية الجمعة لخمس بقين من المحرم سنة اثنتين وعشرين ومائة على أصح الروايات، وقيل: سنة إحدى وعشرين، وهو الذي ذكره العقيقي، حكى ذلك كله السيد أبو طالب عليه السلام.
فلما توفي عليه السلام اختلف أصحابه في دفنه، ثم اتفقوا على أن عدلوا نهرًا عن مجراه، ثم حفروا له ودفنوه وأجروا الماء على ذلك الموضع، وكان معهم في تلك الحال غلام سندي، فلما أصبح نادى منادي يوسف بن عمر من دل على قبر زيد ابن علي كان له من المال كذا وكذا، فدلهم عليه ذلك الغلام فاستخرجوه عليه السلام من قبره ثم احتزوا رأسه فوجهوا به إلى هشام بن عبدالملك وصلبوا جثته بالكناسة.
وكان له في صلبه من الكرامات ما يدل على علو منزلته عند الله عز وجل، فمن ذلك ما رُوي أن العنكبوت كانت تنسج على عورته ليلاً، فكانوا لعنهم الله إذا أصبحوا يهتكون نسجها بالرماح.
ومنها أن امرأةً مؤمنة مرت فطرحت عليه خمارها فالتاث بمشيئة الله عز وجل فصعدوا فحلوه، فاسترخت سرته حتى غطت عورته، ومر به رجل فأشار إليه بأصبعه وهو يقول: هذا الفاسق ابن الفاسق فغابت إصبعه في كفه.
ومنها ما روي أن طائرين أبيضين جاءا فوقع أحدهما على قصر والثاني على قصر آخر، فقال أحدهما للآخر:
تنعى زيدًا أو أنعاه ... قاتل زيد لا نجاه
فأجابه الآخر: يا ويحه باع آخرته بدنياه.
وروي أن رجلين من بني ضبة أقبلا ويد كل واحد في يد صاحبه حتى قاما بحذاء خشبة زيد بن علي عليهما السلام، فضرب أحدهما بيده على الخشبة وهو يقول {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33].
قال: فذهب ليحني يده فانتثرت بالأكلة، ووقع شقه فمات إلى النار.
ولما وجه برأس زيد بن علي عليهما السلام إلى هشام بن عبدالملك بعث به إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى إبراهيم بن هاشم المخزومي، فنصب رأسه فتكلم أناس من أهل المدينة وقالوا لإبراهيم: لا تنصب رأسه فأبى، وضجت المدينة بالبكاء من فلما نظر كثير بن كثير بن المطلب السهمي إلى عليه السلام دور بني هاشم كيوم الحسين رأس زيد بن علي عليهما السلام بكى وقال: نضر الله وجهك أبا الحسين وفعل بقاتلك، فبلغ ذلك إبراهيم بن هشام، وكانت أم المطلب أروى بنت الحارث بن عبدالمطلب، وكان كثير الميل إلى بني هاشم، فقال له إبراهيم بلغني عنك كذا وكذا فقال: هو ما بلغك، فحبسه وكتب إلى هشام فقال وهو محبوس:
إن امرءًا كانت مساويَهُ ... حبُّ النبي لغَيرُ ذي ذنب
وكذا بني حسن فوالدهم ... من طاب في الأرحام والصلب
ويرون ذَنْبًا أن أحبكم ... بل حبكم كفارة الذنب
فكتب فيه إبراهيم إلى هشام فكتب إليه هشام: أن أقمه على المنبر حتى يلعن عليا وزيدا فإن فعل وإلا فاضربه مائة سوط على مائة، فأمره أن يلعن عليا فصعد المنبر فقال:
لعن الله من يسب عليّا ... وبنيه من سوقة وإمام
تأمن الطير والحمام ولا يأ ... من آل النبي عند المقام
طبت بيتًا وطاب أهلك أهلا ... أهل بيت النبي والإسلام
مرحبًا بالمطيبين من النا ... س وأهل الإحلال والإحرام
رحمة الله والسلام عليكم ... كلما قام قائم بسلام
وروينا عن عيسى بن سوادة قال: كنت بالمدينة عند القبر عند رأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد جيء برأس زيد بن علي عليهما السلام في رهط من أصحابه فنصب في مؤخر المسجد على الرمح ونودي في أهل المدينة: برئت الذمة من رجل بلغ الحلم لم يحضر المسجد، فحشر الناس الغرباء وغيرهم، فلبثنا سبعة أيام يخرج الوالي محمد بن هشام المخزومي فيقوم الخطباء الذين قاموا بالرؤوس فيخطبون فيلعنون عليًّا والحسين وزيدا وأشياعهم، فإذا فرغ قام القبائل عربيهم وعجميهم وكان بنو عثمان أول من قام فيلعنون، ثم بطون قريش والأنصار وسائر الناس حتى إذا صلى الظهر انصرف ثم عاد في الغد مثلها سبعة أيام، فقام رجل من قريش في بعض تلك الأيام وهو محمد بن صفوان الجمحي وهو أبو هذا القاضي قاضي أبي جعفر فقال له محمد بن هشام: اقعد، ثم عاد فقام من غير أن يدعى، فقال له محمد بن هشام: اقعد، فقال: إن هذا مقام لا يقدر عليه كل ساعة، قال: فتكلم، فأخذ في خطبته، ثم تناول يلعن عليًّا عليه السلام وأهل بيته والحسين بن علي وزيد بن علي عليهم جميعا السلام ومن كان يحبهم، فبينا هو؛ إذ وضع يده على رأسه، ووقع على الأرض، فظننت أن خطبته قد انقضت فلم أعلم حتى إذا كان من الليل انتشر خبره، فرماه الله عز وجل في رأسه بصداع لا يتمالك من الصداع حتى ذهب بصره في تلك الساعة، وكان رجل مستند إلى القبر فضرب بيده إلي فزعًا! قلت: ما رأيت؟ قال: رأيت القبر انشق فخرج منه رجل عليه ثياب بيض فاستقبل المنبر فقال: كذبت لعنك الله.
وعن شبيب بن غرقد قال: قدمنا حجاجًا من مكة فدخلنا الكناسة ليلاً، فلما أن كنَّا بالقرب من خشبة زيد [بن علي عليهما السلام أضاء لنا الليل، فلم نزل نسير قريبا من خشبته فنفحت] رائحة المسك قال: فقلت لصاحبي: هكذا توجد رائحة المصلبين؟! قال: فهتف بي هاتف وهو يقول: هكذا توجد رائحة أولاد النبيين الذين يقضون بالحق وبه يعدلون.
وروينا عن حفص بن عاصم السلولي قال: حدثنا أحمد بن إسماعيل بن اليسع العامري، وكان في دار اللؤلؤ قال: رأيت عرزمة أخا كناسة الأسدي، وكان من أبهى الرجال وأحسنهم عينا، وكان في كل يوم ينطلق إلى الكناسة فيقعد عند الذين يحرسون خشبة زيد بن علي عليهما السلام، وكان هناك مجمع الأسديين فكان يلتقط في طريقه سبع حصيات، ثم يجئ فيجلس في القوم، ثم يقول: هاكم في عينه فيخذف زيد بن علي عليهما السلام بتلك السبع الحصيات في كل يوم، قال إسماعيل بن اليسع: فوالذي لا إله غيره ما مات حتى رأيت عينيه مرفودتين كأنهما زجاجتان خضراوان.
ثم أقام زيد بن علي عليهما السلام مصلوبًا على الخشبة سنة وأشهرا، وقيل: أيامًا وقيل: سنتين، ذكره السيد أبو طالب عليه السلام.
وروينا من طريق المرشد بالله عليه السلام يرفعه إلى رجاله: أنه مكث مصلوبًا إلى أيام الوليد بن يزيد، فلما ظهر يحيى بن زيد كتب الوليد إلى يوسف أما بعد: فإذا أتاك كتابي هذا فانظر عجل أهل العراق فاحرقه وانسفه في اليم نسفًا، فأمر به يوسف عند ذلك: خراش بن حوشب فأنزله من جذعه فأحرقه بالنار، ثم جعله في قواصر، ثم حمله في سفينة، ثم ذراه في الفرات، سلام الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، وروت الشيعة أن رماده اجتمع في الفرات حتى صار مثل هالة القمر يضيئ ضياء شديدا وموضع ذلك معروف يستشفى به.
وكان هشام لعنه الله لما أتي إليه برأسه ألقاه بين الدجاج، فقال بعض أهل الشام: اطردوا الديك عن ذؤابة زيد، فلقد كان لا تطأه الدجاج، وافتخر شاعر بني أميه بقتله وصلبه فقال:
صلبنا لكم زيدًا على جذع نخلة ... ولم نر مهديًّا على الجذع يصلب
ولقد مكن الله تعالى وزير آل محمد أبا حفص الخلال السبيعي من صلب هشام بن عبدالملك وضربه وتحريقه، وذلك أنه لما مات طَلوْه بالصبر لئلا يبلى، فوجدته الشيعة لما نبشته مثلما دفن، فقال بعض شعراء أهل العصر في كلمة يمدح فيها الإمام المنصور بالله عليه السلام:
وكم صون جسم كان فيه هلاكه ... كما ضُرُّ بالتَّصْبِيرِ جِسمُ هشام
ولأبي ثميلة الأنباري يرثي زيد بن علي عليهما السلام:
يا أبا الحسين أعار فقدك لوعة ... من يلق ما لاقيت منها يكمد
فعر السهاد ولوسواك رمت به ... الأقدار حيث رمت به لم يَشهد
فصعرت بعدك كالسليم وتارة ... أحكى إذا أمسيت فعل الأرمد
ونقول: لا تبعد، وبعدك داؤنا ... وكذاك من يلقى المنية يبعد
كنت المؤمل للعظائم والنهى ... ترجى لأمر الأمة المتأود
فقتلت حين نضلت كل مناضل ... وصعدت في العلياء كل مُصَعَّدِ
وطلبت غاية سابقين فنلتها ... بالله في سَنن كريم المورد
وأبَى إلهُك أن تموت ولم تَسِر ... فيهم بسيرة صادق مستنجد
والقتل في ذات الإله سجيةٌ ... منكم وأخذٌ بالفعال الأمجد
وَالوَحْشُ آمنةٌ وآلُ محمدٍ ... من بين مقتول وبين مطرد
نُصبًا إذا ألقى الظلام ستوره ... رقد الحمام، وليله لم يرقد
يا ليت شعري والخطوب كثيرة ... أسباب موردها وما لم تورد
ما حجة المستبشرين بقتله ... بالأمس أو ما عذر أهل المسجد
وروى السيد المرشد بالله أبو الحسين يحيى بن الحسين الجرجاني الحسيني عليه السلام للفضل بن عبدالرحمن بن العباس يرثي زيد بن علي عليهما السلام:
ألا يا عين فاحتفلي وجودي ... بدمعك ليس ذا حين الجمود
ولا حين التجلُّد فاستهلي ... وكيف بقاء دمعك بعد زَيْدِ
أبعد ابن النبي أبي حسين ... صليب بالكناسة فوق عود
يظل على عمودهم وَيُمسي ... بنفسي أعظمًا فوق العمود
تعدى الكافر الجبار فيه ... فأخرجه من القبر اللحيد
فظلوا ينبشون أبا حسين ... خضيبًا بينهم بدم جسيد
فطال بهم تلعبهم عتوا ... وما قدروا على الروح الصعيد
فجاور في الجنان بني أبيه ... وأجدادًا هم خير الجدود
وكائن من أبٍ لأبي حسين ... من الشهداء أو عم شهيد
ومن أبناء أعمام سيلقى ... هُمُ أولى به عند الورود
ورود الحوض يوم يذب عنه ... فيمنعه من الطاغي الجحود
ويصرف حزبه معه جميعًا ... ظماء يبعثون إلى الصديد
دعاه معشرٌ نكثوا أباه ... حسينًا بعد توكيد العهود
فسار إليهم حتى أتاهم ... فما التفتوا على تلك العقود
وغرُّوه كما غروا أباه ... وكانوا فيهما شبه اليهود
كما هلكوا به من أمر عيسى ... وأصحاب العقيرة من ثمود
فكيف تضن بالعبرات عيني ... وتطمع في الغموض مع الرقود
ألا لا غمض في عيني ولما ... تسير الخيل تضبح بالأسود
بجمع في قبائل من معد ... وقحطان كتائب في الحديد
كتائب كلما أفنت قتيلاً ... تنادت أن على الأعداء عودي
بأيديهم صفائح مرهفات ... صوارم أخلصت من عهد هود
بها نشفي النفوس إذا التقينا ... ونقتل كل جبار عنيد
ونقضي حاجة في آل حرب ... وفي آل الدعي بني عبيد
عبيد بني علاج قتلونا ... بأمر الفاسق الطاغي يزيد
ونحكم في بني حَكَمِ المواضي ... ونجعلهم بها مثل الحصيد
ونقتل في بني مروان حتى ... تبيدهم الأسود بنو الأسود
وننزل بالمعيطيين حربًا ... عمارة فيهم وبني الوليد
ونترك آل قنطورَا هشيمًا ... بني الرومي أولاد العبيد
ونتركهم ببغيهم علينا ... وهم من بين قتلى أو شريد
فإن تمكن صروف الدهر منكم ... وما يأتي من الملك الجديد
نحاربكم بما أبليتمونا ... قصاصًا أو نزيد على المزيد
ونترككم بأرض الشام صرعى ... كأمثال الذبائح يوم عيد
تنوبهم خوامعها وطلس ... وكل الطير من بُقْعٍ وسود
ونقتل حزبهم من كل حي ... ونسقيهم أمرَّ من الهبيد
أثقلتنا وتحبسنا عقوقًا ... وتجعلنا أمية في القيود
وتطمع في مودتنا ألا لا ... فما منَّا أمية من ودود
وقالوا: لا نصدقهم بقول ... وما قبلوا النصيحة من رشيد
وساوى بعضهم فيه لبعض ... فريق القوم في ذات الوقود
فنحن كمن مضى منا وأنتم ... كشيعتكم من أصحاب الخدود
فقد منع الرقاد مصاب زيد ... وأذهب فقده طعم الهجود
فقد لهجوا بقتل بني علي ... ولجوا في ضلالهم البعيد
وكائن من شهيد يوم ذاكم ... عليه يا أمية من شهود
من انفسكم إذا نطقت بحق ... من الأسماع منكم والجلود
وَلست بآيسٍ من أن تصيروا ... خنازيرًا وفي صُوَرِ القرود
وللصاحب أبى القاسم إسماعيل بن عباد نفعه الله بصالح عمله:
بدا من الشيب في رأسي تفاريق ... وحان للهو تمحيض وتطليقُ
هذا فلا لهو مع همّ يعوقني ... بيوم زيد وبعض الهمِّ تعويقُ
لمَّا رأى أن حق الدين مطرح ... وقد تقسمه نهب وتمحيقُ
وأن أمر هشام في تفرعنه ... يزداد شرًّا وأن الرجس زنديق
قام الإمام بحق الله تنهضه ... محبة الدين إن الدين موموقُ
يدعو إلى ما دعا أباؤه زمنًا ... إليه وهو بعين الله مرموقُ
لما تردت حراراتي عليه ولم ... فليس يعسره في الخلق مخلوقُ
ابن النبي نعم وابن الوصي نَعَمْ ... وابن الشهيد نعم والقول تحقيق
لم يشفهم قتله حتى تعاوره ... قتل وصلبٌ وإحراقٌ وتغريقُ