هو أبو عبدالله الحسين بن علي عليهما السلام.
وأمه: فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان بين ولادتها للحسن ابن علي وعلوقها بالحسين خمسون ليلة، وولد عليه السلام لخمس ليال خلون من شهر شعبان سنة أربع من الهجرة، وأذّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أذنه عند ولادته بالصلاة، وعقَّ عنه في اليوم السابع، وحلقت أمه عليها السلام رأسه، وتصدقت بوزنه فضةً على المساكين، وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسينًا.
وروينا عن أم الفضل ابنة الحارث: أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إني رأيت حلمًا منكرًا الليلة.
قال: وما هو؟ قالت: إنه شديد! قال: وما هو؟ قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خيرًا رأيت، تلد فاطمة غلامًا فيكون في حجرك [قالت]، فولدت فاطمة الحسين، وكان في حجري كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدخلت يوما على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوضعته في حجره، ثم كانت مني التفاتة، فإذا عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تهريقان بالدموع، فقلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله مالك؟ قال: أتاني جبريل عليه السلام
وأخبر بأن أمتي ستقتل ابني هذا، وأتاني بتربة من تربة حمراء!.
وروي أن فاطمة عليها السلام لما ولدت الحسن عليه السلام قالت لعلي عليه السلام سمِّه، قال علي عليه السلام: وكنت رجلاً محرابا أحب أن أسميه حربا، ثم قلت ما كنت لأسبق باسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل له: سمِّه. فقال: وما كنت لأسبق باسمه ربي جل وعز، فأوحى الله تعالى إلى جبريل: إنه ولد لمحمد ابن، فاهبط فأقره السلام، وَهَنِّهِ وقل له: إن عليًّا منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون، فهبط جبريل فهناه من الله تعالى، ثم قال: إن الله يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون، فقال: وما كان اسمه؟ قال: شبر. قال: لساني عربي: قال: فسمه الحسن. فسماه الحسن.
فلما ولد الحسين أوحى الله إلى جبريل: قد ولد لمحمد ابن، فاهبط إليه وهنه وقل له: إن عليًّا منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون.
فلما نزل جبريل وهنَّاه وبلَّغه الرسالة، قال: وما كان اسم ابن هارون؟ قال: شبير.
قال: لساني عربي. قال: فسمِّه الحسين. قال: فسماه الحسين.
صفته (ع)
كان يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سرَّته إلى قدمه، وروي أنه كان شديد البياض حتى كان يهتدى إلى موضعه في الليل المدلهم؛ لشدة بياض وجهه ونحره.
ذكر طرف من أحواله ومناقبه (ع)
هو عليه السلام ابن محمد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء، وخامس أهل الكساء، الذين شهد بتطهيرهم التنزيل، وأثنى عليهم الملك الجليل، قال سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] فهم المطهرون من الأدناس، المفضَّلون على جميع الجِنَّةِ والناس، ولله القائل:
بأبي خمسة هم جُنِّبُوا الرج ... ـس كرامٌ وطهِّروا تطهيرا
أحمد المصطفى وفاطم أعني ... وعليًّا وشبَّرًا وشبيرا
من تولاهم تولاه ذو العر ... ش ولقّاه نضرة وسرورا
وعلى مبغضيهمُ لعنة اللـ ... ــه وأصلاهم المليك سعيرًا
وفي الرواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمل الحسن والحسين عليهما السلام ذات يوم على عاتقه، وهو يقول: ((نعم المطي مطيكما، ونعم الراكبان أنتما، وأبوكما خيرٌ منكما)) وفي ذلك ما يقول الشاعر:
أتى حسنًا والحسينَ الرسو ... لُ وقد برزا ضحوة يلعبان
فضمهما وتفداهما ... وكانا لديه بذاك المكان
ومر وتحتهما منكباه ... فنعم المطيةُ والركبان
وروينا عن عبدالله بن عمرو الخزاعي عن هند ابنة الجون قالت: نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيمة أم معبد، ومعه أصحاب له وكان من أمره في الشاة ما قد علمه الناس، فَقَالَ في الخيمة هو وأصحابه حتى أبردوا، وكان يومًا قائظًا شديدًا حرُّه، فلمَّا قام من رقدته دعا بماء فغسل يديه فأنقاهما، ثم مضمض فاه ومجَّه إلى عوسجة كانت إلى جانب خيمة خالية، فلما كان من الغد أصبحنا وقد غلظت تلك العوسجة حتى صارت أعظم دوحة عادية رأيتها، وقد شذب الله شوكها، وساخت عروقها واخضرَّ ساقها وورقها، ثم أثمرت بعد ذلك وأينعت بثمر أعظم ما يكون من الكمئة في لون الورس المسحوق، ورائحة العنبر، وطعم الشهد، والله ما أكل منها جائع إلا شبع، ولا ظمئان إلا روي، ولا سقيم إلا بري، ولا أكل من ورقها بعير ولا ناقة ولا شاة إلا دَرَّ لبنها، ورأينا النماء والبركة في أموالنا منذ نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخصبت بلادنا وأمرعت، فكنا نسمي تلك الشجرة: المباركة، وكان من ينتابنا من حولنا من البوادي يستشفون بها، ويتزودون من ورقها، ويحملونها معهم في الأرض والقفار، فيقوم لهم مقام الطعام والشراب، فلم نزل كذلك وعلى ذلك حتى أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها، واصفر ورقها، فحزنا لذلك وفزعنا له فما كان إلا قليلا حتى جاء نعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا هو قد قبض في ذلك اليوم، فكانت بعد ذلك تثمر دونه في الطعم والعِظَمِ والرائحة، وأقامت على ذلك ثلاثين سنة، فلما كان ذات يوم أصبحنا فإذا بها قد أشوكت من أولها إلى آخرها، وذهبت نضارة عيدانها، وتساقط جميع ثمرها، فما كان إلا يسيرًا حتى وافانا مقتل أمير المؤمنين عليه السلام، فما أثمرت بعد ذلك قليلاً ولا كثيرًا، وانقطع ثمرها، ولم نزل ومن حولنا نأخذ من ورقها ونداوي به مرضانا، ونستشفي به من أسقامنا، فأقامت على ذلك مدة وبرهة طويلة، ثم أصبحنا وإذا بها يومًا قد انبعث من ساقها دم عبيط جار، وورقها ذابل يقطر ماء كماء اللحم، فعلمنا أن قد حدث حدثٌ عظيم، فبتنا فزعين مهمومين نتوقع الداهية، فأتانا بعد ذلك قتل الحسين بن علي عليهما السلام، ويبست الشجرة وجفت وكسرتها الرياح والأمطار بعد ذلك، فذهبت واندرس أصلها.
قال محمد ابن سهل - وهو من رواة الحديث: فلقيت دعبل بن علي الخزاعي بمدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فحدثته بهذا الحديث، فقال حدثني أبي عن جده عن أمه سُعدى بنت مالك الخزاعية أنها أدركت تلك الشجرة، وأكلت من ثمرها على عهد أمير المؤمنين علي عليه السلام، قال دعبل: فقلت قصيدتي:
زر خير قبر بالعراق يزار ... واعص الحمار فمن نهاك حمار
لِمَ لا أزورك يا حسين لك الفدا ... نفسي ومن عطفت عليه يزار
ولك المودة في قلوب ذوي النهى ... وعلى عدوك مقتة ودمار
وروينا عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إ ذا كان يوم القيامة كنت وولداك على خيل بُلْقٍ، متوّجة بالدر والياقوت، فيأمر الله تعالى بكم إلى الجنة والناس ينظرون)).
وروينا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((حسينٌ مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينًا حسين سبط من الأسباط)).
وروينا بالإسناد عن عمرو بن مسعدة قال: دخلت على المأمون وبين يديه كتاب ينظر فيه، وعيناه تجريان بالدموع، قال عمرو: فقلت: يا أمير المؤمنين ما في هذا الكتاب الذي أبكاك لا أبكى الله عينك؟ قال: يا عمرو، هذا مقتل أمير المؤمنين علي، والحسين بن علي صلوات الله عليهما.
فقلت: يا أمير المؤمنين إن الخاصة والعامة قد كثرت في أمرهما، فما يقول أمير المؤمنين في أهل الكساء؟ قال: فتنفس الصعداء، ثم قال: هيهٍ يا عمرو، هم والله آلُ الله، وعترة المرسل الأوّاه- يعني إبراهيم عليه السلام وسفينة النجاة، وبدُور ظلام الدجى، وبحور بغاة الندى، وغيث كل الورى، وأشبال ليث الدين، ومبيد المشركين، وقاصم المعتدين، وأمير المؤمنين، وأخي رسول رب العالمين، صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، هم والله المعلنوا التقى، والمسرُّوا الهدى، والمعلموا الجدوى، والناكبون عن الرَّدى، لا لُحُظ ولا جُحُظ، ولا فُظُظٌ غُلُظ، وفي كل موطن يُقُظ، هامات هاماتٍ، وسادات سادات، غيوث جاراتٍ، وليوث غابات، أولو الأحساب الوافرة، والوجوه الزاهرة الناضرة، ما في عودهم خَوَرٌ، ولا في زندهم قِصَرٌ، ولا في صفوهم كَدَرٌ، ثم ذكر الحسن والحسين عليهما السلام، فهمل منه دمع العين، في حلبة الخدين، كفيض الغرتين، ونظم السمطين، وهي من القرطين، ثم قال: هما والله كبدري دجى، وشمسي ضحى، وسيفي لقاء، ورمحي لواء، وطودي حجى، وكهفي تقى، وبحري ندى، وهما ريحانتا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وثمرتا فؤاده، والناصرا دين الله تعالى، ولدا بين التحريم والتحليل، ودرجا بين التأويل والتنزيل، رضيعا لبان الدين والإيمان، والفقه والبرهان، وحكمة الرحمن، سيدا شباب أهل الجنة، ولدتهما البتول الصادقة بنت خير الشباب والكهول، وسماهما الجليل، ورباهما الرسول، وناغاهما جبريل، فهل لهؤلاء من عديل؟ بررةٌ أتقياء، ورثة الأنبياء، وخزنة الأوصياء، قتلهم الأدعياء وخذلتهم الأشقياء، ولم تَرْعَوِ الأمة من قتل الأئمة، ولم تحفظ الحرمة، ولم تحذر النقمة، ويل لها ماذا أتت! بسخط من تعرّضت! في رضى مَن سعت! طلبت دنيا قليل عظيمُها، حقيرٍ جسيمُها، وِرْدَ المعاد أغفلت، إذا الجنة أزلفت، وإذا الجحيم سعرت، وإذا القبور بعثرت، ولحسابها جمعت، ويل لها ماذا حُرِمت، عن روح الجنان ونعيمها صُرفت، وعن الولدان والحور غُيِّبت، وإلى الجحيم صُيرت، ومن الضريع والزقوم أُطعمت، ومن المهل والصديد والغسلين سُقيت، ومع الشياطين والمنافقين قُرنت، وفي الأغلال والحديد صُفِّدت، ويل لها ماذا أتت، ثم هملت عيناه، وكثر نحيبه وشهيقه، فقلت: يا أمير المؤمنين يشفيك ما إليه صار القوم، فقال: نعم إنه لشفاء، ولكني أبكي لأشجان وأحزان تحركها الأرحام وقال:
لا تقبل التوبة من تائب ... إلا بحب ابن أبي طالب
حب علي واجبٌ لازم ... في عنق الشاهد والغائب
أخو رسول الله حلْفُ الهدى ... والأخ لا يُعدل بالصاحبِ
لو جمعا في الفضل يومًا لقد ... نال أخوه رغبة الراغبِ
بعد علي حب أصحابه ... ما أنا بالمزري ولا العائبِ
إن مال عنه الناس في جانب ... ملت إليه الدهر في جانبِ
جاءت به السنة مقبولة ... فلعنة الله على الناصبِ
حبهم فرض علينا لهم ... كمثل حج لازم واجبِ
وروينا عن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه، والبيت غاصٌ بمن فيه قال: ادعوا لي الحسن والحسين قال: فجعل يلثمهما حتى أغمي عليه، قال: فجعل علي عليه السلام يرفعهما عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ففتح عينيه، فقال: ((دعهما يتمتعان مني وأتمتع منهما، فإنه سيصيبهما بعدي أَثَرَةٌ، ثم قال: أيها الناس، إني خلفت فيكم كتاب الله وسنتي وعترتي أهل بيتي، فالمضيع لكتاب الله كالمضيع لسنتي، والمضيع لسنتي كالمضيع لعترتي، أما إن ذلك لن يفترقا حتى اللقاء على الحوض)).
ذكر أولاده ووفاته (ع)
أولاده عليه السلام:
علي الأكبر في قول العقيقي، وكثير من الطالبية، وهو الأصغر في قول الكلبي ومصعب بن الزبير، وكثير من أهل النسب. وله العقب، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان. وروى عن جده أمير المؤمنين عليهما السلام.
وعبدالله بن الحسين. قتل مع أبيه بالطف جاءته نشابة وهو في حجر أبيه فقتلته، وأمهما واحدة.
وعلي الأصغر في قول العقيقي وكثير من الطالبية لا عقب له، قتل مع أبيه، وهو الأكبر في قول من ذكرنا من أهل النسب، وأمه: ليلى ابنة أبي مرة ابن عروة بن مسعود الثقفية، وأمها: ميمونة ابنة أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس، ولهذا ناداه رجل من أهل الشام حين برز للقتال بين يدي أبيه صلوات الله عليه، وقال له: إن لك رحما بأمير المؤمنين يعني يزيد، وهو يريد رحم ميمونة ابنة أبي سفيان، فإن شئت أمناك! فقال له: ويلكم لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحق أن ترعى! وقاتل حتى قُتل.
وجعفر دَرَجَ صغيرًا، وأمه بلوية من بلي بن قضاعة، وذكر بعض أهل النسب إبراهيم، ومحمدًا، وليس يعرفهما الطالبيون.
والعقب من ولد الحسين عليه السلام لواحد وهو: علي بن الحسين الأكبر في قول الطالبية، والأصغر في قول كثير من أهل النسب.
ومن البنات: فاطمة وأمها أم إسحاق ابنة طلحة بن عبيدالله عقبها في ولد الحسن بن الحسن عليهما السلام، وفي ولد عبدالله بن عمرو بن عثمان الملقب بالمِطرَف. وأمها الجرباء، وسميت الجرباء؛ لأنه كان لا يجلس معها أحد لجمالها وحسنها، فلما تحامى النساء الجلوس معها شبهت بالناقة الجرباء التي يحمي صاحب الإبل إبله عنها، وهي الجرباء ابنة قسامة بن رومان من طي.
وسكينة واسمها: آمنة، وأمها: الرباب ابنة امرئ القيس بن عدي بن أوس، وسكينة انقرض عقبها إلا من ولد عبدالله بن عثمان بن عبدالله بن حكيم ابن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى، فإنها ولدت له عثمان الملقب بقرين، وحكيمًا، وربيحة.
مقتله عليه السلام وموضع قبره وما يتصل بذلك
روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يقتل ابني الحسين بظهر الكوفة، الويل لقاتله وخاذله، ومن ترك نصرته)) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((تحشر ابنتي فاطمة ومعها ثياب مصبوغة بدم، فتعلق بقائمة من قوائم العرش وتقول: يا عدل يا جبار احكم بيني وبين قاتل ولدي، قال صلى الله عليه وآله وسلم فيحكم لابنتي ورب الكعبة)).
وروينا من أمالي السيد المرشد بالله أبي عبدالله يحيى بن الحسين الحسني عليه السلام يرفعه إلى عبدالله بن عمرو بن العاص أن معاذ بن جبل أخبره، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متغير اللون فقال: ((أنا محمد أوتيت فواتح الكلام وخواتمه فأطيعوني ما دمت بين أظهركم، فإذا ذُهب بي فعليكم بكتاب الله عز وجل أحلُّوا حلاله وحرموا حرامه، أتتكم الموتة، أتتكم الروح والراحة، كتاب من الله سبق، أتتكم فتن كقطع الليل المظلم، كلما ذهب رَسْلٌ جاء رسل، تناسخت النبوة فصارت مُلْكًا، رحم الله من أخذها بحقها، وخرج منها كما دخلها. أمسك يا معاذ وأحص)) قال: فلما بلغت خمسة قال: يزيد لا بارك الله في يزيد، ثم ذرفت عيناه صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: نُعي إلي الحسين وأُتيت بتربته، وأخبرتُ بقاتله، والذي نفسي بيده لا يقتل بين ظهراني قوم لا يمنعونه إلا خالف الله بين صدورهم وقلوبهم، وسلط عليهم شرارهم، وألبسهم شيعًا، ثم قال: واها لفراخ آل محمد من خليفة مستخلَف مترف يقتل خلفي وخلف الخلف أمسك يا معاذ، فلما بلغت عشرة، قال: الوليد اسم فرعون هادم شرائع الإسلام، يبوء بدمه رجل من أهل بيته، يسأل الله سيفه فلا غماد له، واختلف الناس فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه، ثم قال: بعد العشرين ومائة موتٌ سريع، وقتل ذريع، وفيه هلاكهم، ويلي عليهم رجل من ولد العباس))
وروينا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((قاتل الحسين في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل النار، قد شُدَّت يداه ورجلاه بسلاسل من نار، منكس في النار، حتى يقع في قعر جهنم، وله ريح يتعوذ أهل النار إلى ربهم من شدّة ريحٍ نتنه، وفيها خالدٌ ذائق العذاب الأليم، لا يفتر عنهم ساعة، ويسقى من حميم جهنم، الويل لهم من عذاب الله عز وجل)).
وروينا عن عائشة رحمها الله قالت: دخل الحسين بن علي عليهما السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يوحى إليه، فنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مُنْكَبٌّ ولعب على ظهره، فقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتحبُّه يا محمد؟ قال: يا جبريل ومالي لا أحب ابني! قال: فإن أمَّتك ستقتُله من بعدك، فمد جبريل يده فأتاه بتربة بيضاء، فقال: في هذه الأرض يقتل ابنك، واسمها الطفُّ، فلما ذهب جبريل صلى الله عليه وآله وسلم من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتربة في يده وهو يبكي فقال: يا عائشة إن جبريل أخبرني أن الحسين إبني مقتول في أرض الطف، وأن أمتي ستفتتن بعدي، ثم خرج إلى أصحابه ومنهم عليٌّ، وأبو بكر، وعمر، وحذيفة، وعمار، وأبو ذر، وهو يبكي فقالوا: ما يُبكيك يا رسول الله؟ قال: أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة، فأخبرني جبريل عليه السلام أن فيها مضجعه.
ولما اضطر عليه السلام إلى محاربة القوم وعبَّا عمر بن سعد أصحابه لمحاربة الحسين عليه السلام، ورتَّبهم مراتبهم، وأقام الرايات في مواضعها، وعبَّأ أصحاب الميمنة والميسرة، وقال لأصحاب القلب: اثبتوا، وأحاطوا بالحسين عليه السلام من كل جانب حتى جعلوه في مثل الحلقة، فخرج عليه السلام حتى أتى الناس، فاستنصتهم فأبوا أن ينصتوا حتى قال لهم: ويلكم ما عليكم أن تنصتوا لي فتسمعوا قولي؛ فإني إنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمن أطاعني كان من المهتدين والمرشدين، ومن عصاني كان من المهلكين، وكلكم عاص لأمري، غير مستمع قولي، فقد انجزلت عطياتكم من الحرام، وملئت بطونكم من الحرام، فطُبع على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون؟ ألا تستمعون؟ فتلاوم أصحاب عمر بن سعد بينهم وقالوا: أنصتوا له، فأنصتوا، فقام الحسين عليه السلام فيهم: فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: تبًّا لكم أيتها الجماعة وترحا، أفَحين استصرختمونا وَلِهِينَ متحيِّرين، فأصرخناكم موجزين مستعدِّين، سللتم علينا سيفًا في رقابنا! وحششتم علينا نار الفتن، جناها عدوُّكم وعدوُّنا، فأصبحتم إلبًا على أوليائكم، ويدًا عليهم لأعدائكم، لغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم، وخسيس عيش طعمتم فيه، من غير حدث كان منا، ولا رأي تفيَّل، فهلا لكم الويلات تجهمتمونا والسيف لم يشهر، والجأش طامن، والرأي لم يستخف، ولكن أسرعتم إلينا كطيرة الذباب، وتداعيتم كتداعي الفراش، فقبحًا لكم فإنما أنتم من طواغيت الأمة، وشذاذ الأحزاب، وَنَبذَةِ الكتاب، وَنفَثَةِ الشيطان، وعصبة الآثام، ومحرفي الكتاب، ومطفئ السنن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومبيري عترة الأوصياء، وملحقي العهار بالنسب، ومؤذي المؤمنين، وصراح أئمة المستهزئين، الذين جعلوا القرآن عضين، وأنتم ابن حرب وأشياعَه تعتمدون، وإيانا تحاربون.
أجل والله خذلٌ فيكم معروف، وشَجَت عليه عروقكم، وتوارثته أصولكم وفروعكم، وثبتت عليه قلوبكم، وغشيت صدوركم، فكنتم أخبث شيء: سخى للناصب، وأكلة للغاصب، ألا لعنة الله على الناكثين، الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، وأنتم والله هم، ألا إن الدعيَّ بن الدعيِّ قد ركز بين اثنتين: بين القتلة والذلَّة، وهيهات منَّا أخذ الدنية، أبى الله ذلك ورسولُه والمؤمنون، وجدودٌ طابت، وحجور طَهُرت، وأنوفٌ حميَّة، ونفوس أبية، لا تؤثر مصارع اللئام على مصارع الكرام، ألا قد أعذرتُ وأنذرتُ، ألا إني زاحف بهذه الأسرة، على قلة العتاد، وخذلة الأصحاب، ثم أنشأ يقول:
فإن نَهزِم فهزّامون قِدْمًا ... وإن نُهزَم فغيرُ مهزّمينا
ألا ثم لا تلبثون بعدها إلا كريثما تركب الفرس حتى تدور بكم الرحى، عهدًا عهده إليَّ أبي، فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم كيدون جميعًا ولا تنظرون، إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم.
اللهم احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسنيِّ يوسف، وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسًا مرة، فلا يدع فيهم أحدًا إلا قتله بقتلة، وضربه بضربة، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم؛ فإنهم غرُّونا وكذبونا وخذلونا، وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
ثم قال: أين عمر بن سعد؟ ادعوا لي عمر. فدُعي له، وكان كارهًا لا يحب أن يأتيه، فقال: يا عمر، أنت تقتلني؟ تزعم أن يوليك الدعي ابن الدعي بلادي الرَّي وجرجان، والله لاتتهنأ بذلك أبدًا، عهدًا معهودًا، فاصنع ما أنت صانع، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، ولكأني برأسك على قصبة قد نصبت بالكوفة تتراماه الصبيان، ويتخذونه غرضًا بينهم، فاغتاظ عمر بن سعد من كلامه، ثم صرف بوجهه عنه، ونادى بأصحابه: ما تنتظرون به، احملوا بأجمعكم إنما هي أكلة واحدة.
ثم إن الحسين عليه السلام دعا بفرس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المرتجز، فركبه وعبَّأ أصحابه، وزحف إليهم عمر بن سعد لعنه الله، ونادى غلامه دريدًا: قدم رايتك، ثم وضع سهمه في كبد قوسه، ثم رمى وقال: اشهدوا لي عند الأمير - يعني عبيدالله بن زياد لعنه الله وإياهم - أني أول من رماه، فرمى أصحابه كلهم بأجمعهم في أثره رشقة واحدة، فما بقي أحد من أصحاب الحسين عليه السلام إلا أصابه من رميهم سهم، ثم قاتل عليه السلام هو وأهل بيته وأصحابه حتى قُتِلُوا كلُّهم، وفيهم بضعة عشر شابًا من أهل بيته، فقَتل الحسينَ بنَ علي عليهما السلام سنانُ بن أنس النخعي، وأجهز عليه خولي بن يزيد الأصبحي من حمير.
والعباس بن علي بن أبي طالب، وأمه: أم البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد العامري. قتله زيد بن رقاد الجنبي بسهم، ولما ظفر به الشيعة بالكوفة نصبوه غرضًا ورموه حتى لم يبق قدر الدرهم من جسده إلا وفيه سهم، وحكيم بن طفيل الطائي السِّنبسي، وكلاهما ابتلي في بدنه. وجعفر بن علي بن أبي طالب، وأمه أيضا أم البنين بنت حزام، قتله هانئ بن ثبيت الحضرمي. وعبدالله بن علي، وأمه أيضًا أم البنين رماه خولي بن يزيد الأصبحي بسهم، وأجهز عليه رجل من بني تميم بن أبان بن دارم. ومحمد بن علي بن أبي طالب الأصغر، قتله رجل من بني أبان بن دارم وليس بقاتل عبدالله بن علي، وأمه أم ولد. وأبو بكر بن علي بن أبي طالب، وأمه: ليلى بنت مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم التميمي. وعثمان بن علي، وأمه أم البنين بنت حزام أخو العباس وجعفر وعلي ابني علي لأمهم. وعلي بن الحسين الأكبر، وأمه: ليلى بنت مرة بن عروة بن مسعود بن معتب الثقفي، وأمها: ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب، قتله مرة بن منقذ بن النعمان الكندي، وكان يحمل عليهم ويقول:
أنا علي بن الحسين بن علي ... نحن وبيتِ الله أولى بالنبي
حتى قُتل صلى الله عليه.
وعبدالله بن الحسين، وأمه: الرباب بنت امرئ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عكيم الكلبي، قتله حرملة بن الكاهن الأسدي الوالبي، وُلِدَ والحسين بن علي في الحرب، فأتيَ به وهو قاعد، فأخذه في حجره ولبَّاه بريقه، وسمَّاه عبدالله، فبينا هو كذلك إذ رماه حرملة بن الكاهن بسهم فنحره، فأخذ الحسين دمه فجمعه ورمى به نحو السماء، فما وقعت منه قطرة إلى الأرض.
قال فضيل: وحدثني أبو الورد أنه سمع أبا جعفر يقول: لو وقعت منه إلى الأرض قطرة لنزل العذاب، وهو الذي يقول فيه الشاعر:
وعند غنيٍّ قطرةٌ من دمائنا ... وفي أسدٍ أخرى تُعَدُّ وتذكر
وكان علي بن الحسين عليه السلام عليلاً، وارتُثَّ يومئذ وقد حضر بعض القتال فدفع الله عنه، وأُخِذَ مع النساء هو ومحمد بن عمرو بن الحسن، والحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
وقتل أبو بكر بن الحسن بن علي، وأمه: أم ولد، قتله عبدالله بن عقبة الغنوي. وعبدالله بن الحسن بن علي، وأمه أم ولد رماه حرملة بن الكاهن الأسدي بسهم فقتله. والقاسم بن الحسن بن علي، وأمه: أم ولد قتله عمرو بن سعيد بن نفيل الأزدي. وعون بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، وأمه: جمانة بنت المسيب بن نجبة بن ربيعة بن رباح الفزاري، قتله عبدالله بن قطنة الطائي النبهاني.
ومحمد بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، وأمه: الخوصاء بنت حصفة بن ثقيف بن ربيعة بن عابد بن الحارث بن تيم الله بن ثعلبة بن بكر بن وائل، قتله عامر بن نهشل التميمي.
قال: ولما أتى أهلَ المدينة مصابُهم، دخل الناس على عبدالله بن جعفر يعزُّونه، فدخل عليه بعض مواليه فقال: هذا ما لقينا ودخل علينا من حسين! قال: فخذفه عبدالله بن جعفر بنعله! وقال: يا ابن اللخنا، أللحسين تقول هذا؟! والله لو شهدته ما فارقته حتى أُقتل معه، والله ما شُحّي بنفسي عنهما، وعزاني عن المصاب إلا أنهما أُصيبا مع أخي، وكبيري، وابن عمي، مواسين له، ومضاربين معه، ثم أقبل على جلسائه فقال: الحمد لله على كل محبوبٍ ومكروه، أعززْ علي بمصرع أبي عبدالله، ثم أعزز عليَّ أن لا أكون آسيته بنفسي، الحمد لله على كل حال قد آساه وَلَدَيَّ.
وجعفر بن عقيل بن أبي طالب، أمه: أم البنين بنت الثغر بن عامر بن هصان الكلابي، قتله عبدالله بن عروة الخثعمي. وعبدالرحمن بن عقيل بن أبي طالب، أمه: أم ولد، قتله عثمان بن خالد بن أسير الجهني، وبشير بن حوط الهمداني القايضي، اشتركا في قتله. وعبدالله بن عقيل بن أبي طالب، وأمه: أم ولد، رماه عمرو بن صبيح الصدائي فقتله. ومسلم بن عقيل بن أبي طالب قُتِلَ بالكوفة، وأمه: جبلة أم ولد. وعبدالله بن مسلم بن عقيل، وأمه: رقية بنت علي بن أبي طالب، وأمها: أم ولد، قتله عمرو بن صبيح الصدائي، ويقال: بل قتله أُسيد بن مالك الحضرمي. ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب، وأمه: أم ولد، قتله أبو زهير الأزدي ولقيط بن ياسر الجهني اشتركا فيه، وقتل سليمان مولى الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، قتله سليمان بن عوف الحضرمي، وقتل مَنْجح مولى الحسن بن علي بن أبي طالب عل يهما السلام، قتله حسان بن بكر الحنظلي، وقُتل قارب الدئلي مولى الحسين بن علي عليهما السلام، وقُتل الحارث بن نبهان مولى حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وقتل عبدالله بن يقطر رضيع الحسين بن علي عليهما السلام بالكوفة، رُمي به من فوق القصر فتكسّر، فقام إليه عبدالملك بن عمير اللخمي فقتله واحتزَّ رأسه.
وقُتل من بني أسد بن خزيمة: حبيب بن مظاهر، قتله بديل بن صريم العقفاني، وكان يأخذ البيعة للحسين بن علي، وأنس بن الحارث، وكانت له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقيس بن مسهِّر الصيداوي، وسليمان بن ربيعة، ومسلم بن عوسجة السعدي من بني سعد بن ثعلبة، قتله مسلم بن عبدالله وعبيدالله بن أبي خشكارة، وقُتل من بني غفار: مسلم بن مُلَيل بن ضمرة، وعبدالله وعبدالرحمن ابنا قيس بن أبي غرزة، وجون مولى لأبي ذر الغفاري.
وقُتل من بني تميم: الحرُّ بن يزيد، وكان لحق بالحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام بعد، وشبيب بن عبدالله من بني نفيل بن دارم، وقُتل من بني سعد بن بكر: الحجاج بن بدر. وقُتل من بني تغلب: قاسط وكردوس ابنا زهير بن الحارث، وكنانة بن عتيق، والضرغامة بن مالك. وقُتل من بني قيس بن ثعلبة: خولي بن مالك، وعمرو بن ضبيعة. وقُتل من بني عبد القيس -من أهل البصرة -: يزيد بن بشيط، وابناه عبدالله وعبيدالله، وعامر بن مسلم، وسالم مولاه، وسيف بن مالك، والأدهم بن أمية.
وقُتل من الأنصار: عمرو بن قرظة، وعبدالرحمن بن عبد رب من بني سالم بن الخزرج، وكان أمير المؤمنين عليه السلام ربّاه وعلّمه القرآن، ونعيم بن العجلان الأنصاري، وعمران بن كعب الأنصاري، وسعد بن الحارث، وأخوه الحتوف بن الحارث، وكانا من المحكِّمة، فلمَّا سمعا أصوات النساء والصبيان من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حكما، ثم حملا بأسيافهما، فقاتلا مع الحسين عليه السلام حتى قُتِلا، وقد أصابا في أصحاب عمر بن سعد ثلاثة نفر. وقُتل من بني الحارث بن كعب: الضباب بن عامر. وقُتل من خثعم: عبدالله بن بشير الآكله، وسويد بن عمرو بن أبي المطاوع، قتله هانئ ابن ثبيت الحضرمي.
وقُتل بكر بن حي التيمي من بني تيم الله بن ثعلبة، وجابر ابن الحجاج مولى عامر بن نهشل من بني تيم الله، ومسعود بن الحجاج، وابنه عبدالرحمن بن مسعود.
وقتل من عَيِّذُالله: مجمع بن عبدالله، وعائذ بن مجمع. وقتل من طي عمّار بن حسان بن شريح بن سعد بن حارثة بن لام، وأمية بن سعد. وقتل من مراد: نافع بن هلال الجملي، وكان من أصحاب أمير المؤمنين صلوت الله عليه، وجنادة بن الحارث السلماني وغلامه ابن واضح الرومي. وقُتل من بني شيبان بن ثعلبة: جبلة بن علي. وقُتل من بني حنيفة: سعيد بن عبيدالله. وقُتل من جوان: جندب بن حجير بن جندب. وقُتل من صدآء: عمر بن خالد الصدآئي، وسعد مولاه. وقُتل من كلب: عبدالله بن عمرو بن عياش بن عبد قيس، وأسلم مولى لهم. وقُتل من كندة: الحارث بن امرئ القيس، ويزيد بن بدر بن المهاصر، وزاهر صاحب عمرو بن الحمق، وكان صَحِبَه حين طلبه معاوية. وقتل من قيس بجيلة: كثير بن عبدالله الشعبي، ومهاجر بن أوس، وابن عمه سلمان بن مضارب، وقُتل النعمان بن عمرو، والجلاس بن عمرو الراسبيين. وقُتل من حرقة جهينة: مجمع بن زياد، وعبّاد بن أبي المهاجر الجهني، وعقبة بن الصلت. وقُتل من الأزد: مسلم بن كثير، والقاسم بن بشر، وزهير بن سليم، ومولى لأهل شنوءة يدعى: رافعا. وقُتل من همدان: أبو ثُمامة عمر بن عبدالله الصائدي، وكان من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، قتله قيس بن عبدالله، ويزيد بن حضير المشرفي، وحنظلة بن أسعد الشبامي، وعبدالرحمن ابن عبدالله الأرحبي، وعمار بن أبي سلامة الدالاني، وعابس بن أبي شبيب الشاكري الدالاني، وهم يسمون: فتيان الصبّاح من وادعة، وشوذب مولى شاكر، كان متقدمًا في الشيعة، وسيف بن الحارث بن سريع، ومالك بن عبدالله ابن سريع، وهمام بن سلمة القانصي.
وارتُثَّ من همدان: سوار بن حمير الجابري، فمات لستة أشهر من جراحته، وعمرو بن عبدالله الجندعي مات من جراحة كانت به على رأس سنة، وقتل هانئ بن عروة المرادي بالكوفة، قتله عبيدالله بن زياد، وقتل من حضرموت: بشير بن عمرو.
وخرج الهفهاف بن المهند الراسبي من البصرة حين سمع بخروج الحسين، فسار حتى انتهى إلى العسكر بعد قتله، فدخل عسكر عمر بن سعد، ثم انتضى سيفه، وقال:
يا أيها الجند المجند ... أنا الهفهاف بن المهند
أبغي عيال محمد
ثم شدَّ فيهم.
قال علي بن الحسين: فما رأى الناس منذ بعث الله محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم فارسًا نفر بعد علي بن أبي طالب عليه السلام مثله قتل بيده ما قتل، فتداعوا عليه فأقبل خمسة فاحتوشوه حتى قتلوه رحمه الله.
وروي عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: أنه وجد في الحسين بن علي عليهما السلام: ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وأربعون ضربة، ووجد في جبة خزٍّ دكناء كانت على الحسين عليه السلام مائة خرق، وبضعة عشر خرقًا ما بين رمية وطعنة وضربة.
وعن الشعبي: وجد في ثوب الحسين عليه السلام: مائة خرق، وبضعة عشر خرقًا من الضرب والطعن والرماح والسهام.
وروي عن بعضهم أنه قال: لم يضرب أحد في الإسلام منذ كان أكثر من ضرب الحسين عليه السلام وجد به: مائة وعشرون ضربة بسيف ورمية، وخذف بحجر.
ولما فرغوا من قتله عليه السلام احتزوا رأسه، وكان الذي احتزَّه خولي بن أنس ابن يزيد، وأجروا الخيل بعد ذلك على جثته الكريمة حتى تقطعت، وقال عمر بن سعد: هكذا أمرنا عبيدالله بن زياد أن نصنع به، فانظر إلى عظيم ما أتوه، وفحش ما ارتكبوه، فقاتلهم الله أنى يؤفكون، والبهيمة تَحْرُمُ المثلَة بها عند جميع المسلمين، فكيف بسبط النبوءة وثمر الوصية، وسيد شباب أهل الجنة، سلام الله عليه وصلواته ورضوانه؟!
وأخَذَ سراويل الحسين عليه السلام يحيى بن كعب، فكانتا يداه تقطران دما إذا أشتى، وإذا أصاف يَبِسَتَا، وعادتا كأنهما عود يابس. وأخذ قطيفته قيس بن الأشعث بن قيس، وكان يقال له: قيس القطيفة. وأخذ برنسه مالك بن بشير الكندي، وكان من خَزٍّ، فأتى به أهله، فقالت امرأته بنت عبدالله بن الحارث: أسَلَبُ الحسين يدخل بيتي؟ أخرجه عني، فلم يزل محتاجًا حتى مات. وأخذ عمامته جابر بن يزيد الأودي، فاعتم بها فصار مجذوما. وأخذ درعه مالك بن بشر الكندي، فلبسه فصار معتوهًا، وارتفعت غبرةٌ شديدةٌ سوداء فظن القوم أن العذاب قد أتاهم، ثم انجلت عنهم. وأقبل شمر بن ذي الجوشن إلى الخيام، وأمر بسلب كل ما مع النساء، فأخذوا كل ما في الخيمة حتى أخذوا قرطًا في أذن أم كلثوم، وخرموا أذنها، وفرغ القوم من القسمة وضربوا فيها بالنار.
وعن ابن قتيبة: انتهب الناس ورسًا من عسكر الحسين عليه السلام يوم قتل، فما طلت به امرأة إلا برصت، وكذلك رواه سيّار.
وأرسل عمر بن سعد بالرأس مع رجل يقال له: بشر بن مالك إلى ابن زياد، فوضعه بين يديه، وهو يقول:
أوْقِرْ ركابي فضة وذهبَا ... أنا قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أمًّا وأبًا
فغضب ابن زياد فقدَّمه وضرب عنقه، وقال: إن كان كما قلت، فلم قتلته؟
ولما جيء برأس الحسين بن علي عليهما السلام إلى ابن زياد جعل يقول بقضيب في أنفه: ما رأيت مثل هذا حُسنًا، فقال أنس: أما إنه كان أشبههم برسول الله.
وروي أن ابن زياد أرسل إلى أبي برزة فجرى بينهما كلام، ثم قال عبيدالله بن زياد: كيف ترى شأني وشأن الحسين يوم القيامة؟ فقال: الله أعلم، وما علمي بذلك! قال: إنما أسألك عن رأيك، قال: إن سألتني عن رأيي فإن حسينا يشفع له محمد يوم القيامة، ويشفع لك زياد، قال: اخرج فلولا ما فعلت لك لضربت عنقك، حتى إذ بلغ باب الدار قال: ردوه، فقال: لئن لم تغد علي وتروح لأضربن عنقك.
وروي عن حاجب عبيدالله قال: دخلت القصر خلف عبيدالله بن زياد حين قتل الحسين عليه السلام، فاضطرم وجهه نارًا! فقال: هكذا بكمِّه على وجهه، فقال: هل رأيت؟ قلت: نعم. فأمرني أن أكتم.
وروى السيد أبو الحسين يحيى بن الحسين الحسيني عليهم السلام بإسناده عن خالد بن يزيد عن أم سليم خالةٍ له، قالت: لما قتل الحسين بن علي عليهما السلام مطرت السماء مطرًا كالدم على البيوت والحيطان، فبلغني أنه كان بالبصرة والكوفة والشام وخراسان حتى كنا لا نشك أنه سينزل العذاب.
وروى أيضا عن عمرو بن زياد قال: أصبحت جبّانتنا يوم قتل الحسين عليه السلام ملآنة دمًا.
وروى أيضًا بإسناده عن محمد بن سيرين قال: لم تُرَ هذه الحمرة في أفق السماء حتى قتل الحسين عليه السلام!.
وروى أيضا بإسناده عن الأسود بن قيس قال: كنت ليالي قتل الحسين بن علي عليهما السلام ابن عشرين سنة، فارتفعت حمرة من قبل المشرق، وحمرة من قبل المغرب، فكانتا تلتقيان في كبد السماء أشهرا.
ولما فرغ القوم من قتل الحسين عليه السلام وأصحابه رضي الله عنهم، ساقوا حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تساق السبايا حتى بلغوا الكوفة، وخرج الناس يبكون، وجعل علي بن الحسين وهو مريض يقول: هؤلاء يبكون من أجلنا، فمن قَتَلَنَا؟! فلما دخلوا على ابن زياد قعدت زينب ناحية، فسأل من هي؟ قيل: زينب بنت علي، فقال ابن زياد: الحمد لله الذي فضحكم، وكذَّب أحدوثتكم، فقالت زينب: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وطهرنا تطهيرًا، وإنما يفتضح الفاسق الفاجر، فقال ابن زياد: كيف رأيت صُنْعَ الله بأخيك وأهل بيتك؟ فقالت: ما رأيت إلا جميلاً، وسيجمع الله بينك وبينهم فتتخاصمون، فانظر لمن الفلج يومئذٍ هبلتك أمك يا ابن مرجانة. فغضب وهمَّ بها، فنهاه عمرو بن حريث وقال: إنها امرأة.
ثم التفت إلى علي بن الحسين فقال: من أنت؟ قال: علي بن الحسين، قال: أولم يقتل الله علي بن الحسين؟ قال ذلك أخي أكبر مني قتلتموه، وإن له منكم مطلبا يوم القيامة. قال ابن زياد: نحن لم نقتله ولكن الله قتله، فقال علي بن الحسين: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] الآية، ثم أمر لينظر هل أدرك؟ فقيل: نعم، فأمر أن تضرب عنقه، فتعلقت به زينب عمته، وقالت: يا ابن زياد، لم يبق لنا غيره، فإن كنت تقتله فاقتلنا معه، فقال علي بن الحسين: يا ابن زياد، أبِالقتل تهددني؟! أما علمت أن القتل لنا عادة، وكرامتنا الشهادة؟، ثم قال: أخرجوهم، وخرج إلى المسجد، فخطب وأبلغ في ذم آل أبي طالب، ومدح آل أبي سفيان، وكان من كلامه: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين وأشياعه، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي، فوثب عبدالله بن عفيف الأزدي، وكان من خيار الشيعة، وكانت ذهبت إحدى عينيه يوم الجمل، والأخرى يوم صفين، وكان يلزم المسجد، فقال: يا ابن مرجانة، إن الكذاب وابن الكذاب أنت وأبوك، ومن استعملك وأبوه، يا عدو الله، أتقتل أولاد النبيين، وتتكلم بمثل هذا على منابر المسلمين، تقتل الذرية الطاهرة، وتزعم أنك مسلم؟! واغوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار؟ ألا ينتقمون من اللعين ابن اللعين؟.
فغضب ابن زياد، وأمر بأخذه، فتخلصه أشراف الأزد وهرب، ورجع ابن زياد إلى منزله وبعث بجماعة حتى أخذوا عبدالله بن عفيف، وقَتَلَه.
وروى السيد أبو الحسين يحيى بن الحسين الحسيني بإسناده عن أبي جرثومة العكلي عن أبيه قال: لَمّا قُتِل الحسين بن علي عليهما السلام، سمعت مناديًا ينادي في الجبانة:
أيها القوم قاتلون حسينًا ... أبشروا بالعذاب والتنكيل
كل أهل السماء يدعو عليكم ... من نبيٍّ وملَكٍ ورسولِ
قد لعنتم على لسان ابن داوو ... د وموسى وحامل الإنجيل
وبعث ابن زياد لعنه الله بالحرم والرؤوس مع زحر بن قيس، وشمر بن ذي الجوشن إلى يزيد لعنه الله، فدخلوا عليه، وبلغوا الكتاب، فأطرق ساعة، ثم قال: لقد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما والله لو سار إلي لعفوت عنه، ولكن قبح الله ابن مرجانة، وكان عبدالرحمن بن الحكم قاعدا في مجلسه، فجعل يقول:
لهَامٌ بجنب الطف أدنى قرابة ... من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغلُ
سميةُ أمسى نسلها عدَدَ الحصى ... وبنتُ رسول الله ليس لها نسلُ
ووضع رأس الحسين عليه السلام بين يديه، فجعل ينظر إليه ويقول:
نُفَلِّقُ هامًا من أناسٍ أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
وروي أنه لما جهزهم ابن زياد إلى يزيد، فخرجوا بهم، اجتمع أهل الكوفة ونساء همدان حين خرج بهم، فجعلوا يبكون، فقال علي بن الحسين عليهما السلام: هذا أنتم تبكون! فأخبروني من قتلنا؟! فلما أتي بهم دمشق، وقدموا على يزيد لعنه الله جمع من كان بحضرته من أهل الشام، ثم دخلوا عليه فهنوه بالفتح، فقام رجل منهم أزرق أحمر، ونظر إلى وصيفة من بناتهم، فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه، فقالت زينب: لا والله ولا كرامة لك ولا له إلا أن تخرج من دين الله عز وجل، فأعادها الأزرق، فقال له يزيد: كُفّ.
ولما وضع رأس الحسين بن علي عليهما السلام، في طست جعل ينكت ثناياه بمخصرة في يده وهو يقول:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
فأهلُّوا واستهلُّوا فرحًا ... ثم قالوا: يا يزيد لا تشل
لست من شيخيَّ إن لم أنتقم ... من بني أحمد ما كان فعل
ولما رآه أبو برزة ينكت بالقضيب، قال له: ارفع قضيبك فوالله لربما رأيت فاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فيه يلثمه. ثم قامت زينب ابنة علي عليهم السلام، وأمها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين، صدق الله العظيم كذلك يقول: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [الروم: 10] أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء، وأصبحنا نساق كما تساق الأسرى، أن بنا على الله هوانا، وبك عليه كرامة؟! وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمختَ بأنفك، ونظرت في عطفك جذلان مسرورًا، حين رَأيت الدنيا مستوسقة، والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً أنسيت قول الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178].
أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإمائك، وسوقك بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبايا؟! قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههنَّ، يحدى بهن من بلد إلى بلد، يستشرفهن أهل المنازل، ويتصفح وجوهَهنَّ القريبُ والبعيدُ، والدنيُّ والشريف، وليس معهنَّ من رجالهم ولي، ولا من حماتهم حي؟! وكيف يترجى مراقبة من لفظ فوه أكباد السعداء، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟! وكيف يُستبطى في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالسيف والسنان، والإحن والأضغان، ثم يقول غير متأثِّم ولا مستعظم:
فأهلُّوا واستهلوا فرحًا ... ثم قالوا: يا يزيد لا شلل
منتحيًا على ثنايا أبي عبدالله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأتَ القرحة، واستأصلتَ الشأفة، بإراقتك دماء ذرية آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك زعمت تناديهم، وَلَتَرِدَنَّ وشيكًا موردهم، وَلَتوَدَنَّ أنك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت. اللهم خذ بحقنا، وانتقم من ظالمنا، وأحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا، فوالله ما فريت إلا جلدك، ولا حززت إلا لحمك، وسَتَرِدُ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما تحمَّلت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من عترته في حرمته ولحمته، وليخاصمنك حيث يجمع الله شملهم، ويلم شعثهم، ويأخذ لهم بحقهم {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ ... الآية} [آل عمران: 169، 170]، وحسبك بالله حاكمًا، ومحمدٍ خصيما، وبجبريل ظهيرًا، وسيعلم من بَوَّأ لك وأمكنك من رقاب المسلمين أن بئس للظالمين بدلاً، وأنكم شرٌ مكانًا وأضعف جندًا، ولئن جرَّت عليَّ الدواهي مخاطبتك، على أني أستصغر قدرك، لكن العيون عَبْرى، والصدور حرَّى.
ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النُّجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فتلك الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفوها الذئاب، ولئن اتخذتنا مغنمًا لتجدننا وشيكا مغرمًا، حيث لا تجد إلَّا ما قدّمت يداك، وما ربك بظلام للعبيد، فإلى الله المشتكى، وعليه المعوَّل، فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تُميت وحينا، ولا تدرك أمرنا، ولا ترحض عنك عارنا، وهل رأيك إلا فَنَدٌ، وأيامك إلا عدد، وشَمْلُكَ إلا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين، والحمد لله الذي ختم لأوليائه بالسعادة والمغفرة، وأسأل الله أن يكمِّل لهم الثواب، ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فقال يزيد لعنه الله:
يا صيحة تلعن من صوائح ... ما أهون الموت على النوائح
وفي الأخبار: أنهم لما أقيموا على باب المسجد بدمشق، فإذا شيخ قال: الحمد لله الذي قتلكم وأراح البلاد من رجالكم، فقال علي بن الحسين عليه السلام: يا شيخ هل قرأت القرآن؟، قال: نعم، قال: هل تعرف هذه الآية: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] فنحن القربى يا شيخ، هل قرأت: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26] فنحن ذاك. هل قرأت: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] فنحن أهل البيت الذي خصنا بالطهارة.
قال: فبقي الشيخ ساعة ساكتًا، ثم بكى، وقال: اللهم إني أتوب إليك من بغض هؤلاء، اللهم إني أبرأ إليك من بغض عليٍّ ومحمد وآل محمد. وأُدخلوا على يزيد وبين يديه حبرٌ من اليهود، فقال- بعد ما تكلم علي بن الحسين: من هذا؟ قال: هو ابن صاحب هذا الرأس، قال: ومَن صاحب هذا الرأس؟ قال: الحسين بن علي، وأمه فاطمة بنت محمد.
قال الحبر: يا سبحان الله! فهذا ابن بنت نبيكم قتلتموه بهذه السرعة! بئس ما خلفتموه في ذريته، والله لو ترك فينا موسى بن عمران سبطًا لظننا أنا كنا نعبده، وأنتم فارقكم نبيكم بالأمس، فوثبتم على ابن بنته فقتلتموه! فأمر يزيد فأخرج وهرب، فقام وهو يقول: إن شئتم فاضربوني أو فاقتلوني، إني أجد في التوراة: أنه من قتل ذريَّة نبي لا يزال ملعونا أبدا ما بقي، فإذا مات يصليه الله نار جهنم، ثم استأذن علي بن الحسين عليهما السلام في الخطبة فأبى، فما زالوا به حتى أذن، فصعد المنبر فحمد الله، وأبكى الناس، ثم قال: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أعرفه بنفسي، أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرِّدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حج ولبى، أنا ابن من حمل على البراق في الهوى، أنا ابن من أُسري به إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به جبريل إلى السدرة المنتهى، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن عليٍّ المرتضى، أنا ابن فاطمة الزهراء، فلم يزل يقول حتى ضج المسجد بالبكاء، وأمر يزيد لعنه الله فأقام المؤذن وقطع عليه، فلما قال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله، قال علي بن الحسين: شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي، فلما قال: أشهد أن محمدا رسول الله التفت إلى يزيد وقال: هذا جدي أو جدك؟!؟ فإن زعمت أنه جدك كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدي فلم قتلت عترته.
ثم جهزهم وحملهم إلى المدينة، فلما دخلوها خرجت امرأة من بنات عبدالمطلب ناشرةً شعرها، واضعة كمها على رأسها فتلقتهم وهي تقول:
ماذا تقولون إن قال النبي لكم: ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي؟ بعد مفتقدي ... منهم أُسارى وقتلى ضُرِّجوا بدم
ما كان هذا جزائي إن نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي
وروينا في الأخبار بالإسناد الصحيح: أنه لما أُخذ رأس الحسين بن علي عليهما السلام، ورؤوس أهل بيته وأصحابه رحمهم الله أقبلت الخيل شماطيط معها الرؤوس، وأقبل رجل من أنضر الناس لونًا، وأحسنهم وجها على فرس أدهم، قد علَّق في لباب فرسه رأس غلام أمرد، كأن وجهه قمر ليلة البدر، فإذا هو قد أطال الخيط الذي فيه الرأس، والفرس تمرح، فإذا رفع رأسه لحق الرأس بحرانه، فإذا طأطأ رأسه صكَّ الرأس الأرض، فسألت فقيل: هذا حرملة بن كاهل الأسدي لعنه الله، وهذا رأس العباس بن علي عليه ما السلام، فمكث بعد ذلك ما شاء الله، ثم رأيت حرملة ووجهه أسودُ كأنما أدخل النار ثم أخرج، فقلت له: يا عماه، لقد رأيتك في اليوم الذي جئت فيه برأس العباس وإنك لأنضر العرب وجهًا! فقال: يا ابن أخي، ورأيتني؟ قلت: نعم، قال: فإني والله منذ جئت بذلك الرأس ما من ليلة آوي فيها إلى فراشي إلا وملكان يأتيان فيأخذان بضبعي ثم ينتهيان بي إلى نار تأجج فيدفعاني فيها وأنا أنكص عنها فتسفعني كما ترى.
قال: وكانت عنده امرأة من بني تميم، فسألتها عن ذلك، فقالت: أما إذا أفشى على نفسه فلا يبعد الله غيره، والله ما يوقظني إلا صياحه كأنه مجنون.
ولما قامت الشيعة بطلب ثأر الحسين عليه السلام مع المختار بن أبي عبيد وأوعبت في قتل من حضر الوقعة، وكان في جملتهم عمرو بن الحجاج الزبيدي، فهرب خوفًا على نفسه، فلما توسط البادية ابتلعته الأرض هو وراحلته.
وروينا عن قرة قال: سمعت أبا رجاء يقول: لا تسبوا عليًّا ولا أهل هذا البيت؛ إن جارًا لنا من بني الهجيم قدم من الكوفة، فقال: ألم تروا إلى هذا الفاسق ابن الفاسق، إن الله قد قتله -يعني الحسين بن علي عليهما السلام، فرماه الله بكوكبين في عينيه فطمس الله بصره.
وعن الزهري قال: لما قُتل الحسين بن علي عليهما السلام لم يرفع حجر إلا وجد تحته دم عبيط.
وروينا عن قطنة بن العكي قال: كنَّا في قرية قريبًا من قبر الحسين بن علي عليهما السلام، فقلنا ما بقي ممن أعان على قتل الحسين أحدٌ إلا قد أصابته بلية، فقال رجل: أنا والله ممن أعان على قتله ما أصابني شيء، فسوى السراج فأخذت النار في إصبعه فأدخلها في فيه وخرج هاربًا إلى الفرات فطرح نفسه، فجعل يرتمس والنار فوق رأسه فإذا خرج أخذته النار حتى مات.
وروينا بالإسناد عن ابن المغازلي الشافعي يرفعه بإسناده عن أبي النضر الحضرمي، قال: رأيت رجلاً سمج العمى، فسألته عن سبب ذهاب بصره؟ فقال: كنت فيمن حضر عسكر عمر بن سعد، فلما جاء الليل رقدت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام وبين يديه طست فيها دم، وريشة في الدم، وهو يُؤتى بأصحاب عمر بن سعد فيأخذ الريشة فيخط بها أعينهم، وأُتي بي، فقلت: يا رسول الله: والله ما ضربت بسيف، ولا طعنت برمح، ولا رميت بسهم.
فقال: أفلم تُكثر عدونا؟
فأدخل إصبعيه في الدم: السبابة والوسطى وأهوى بها إلى عيني، فأصبحت وقد ذهب بصري.
وكان قتل الحسين بن علي عليهما السلام في يوم عاشوراء وهو يوم الجمعة من المحرم سنة إحدى وستين، وهو ابن ست وخمسين، وكانت مدة ظهوره وانتصابه للأمر إلى قتله عليه السلام شهرًا واحدًا ويومين، ودفن جسده في كربلاء، ورأسه في الشام، وعليهما مشهدان مزوران.
وترك بنوا أمية رأسه عليه السلام في خزائنهم، فأقام فيها إلى أيام سليمان بن عبدالملك، فأمر بإخراجه وتكفينه وتعظيمه، فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه يبره ويلاطفه، فسأل الحسن ((يعني البصري)) فقال: لعلك فعلت إلى أهله معروفا، فأخبره بما كان منه.
وروينا عن عطية العوفي قال: خرجت مع جابر بن عبدالله الأنصاري، زائري قبر الحسين عليه السلام، فلما وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل، ثم ائتزر بإزار، ثم ارتدى بآخر، ثم فتح صرّة فيها سُعْد فنثره على بدنه، ثم لم يخط خطوة إلا ذكر الله تعالى حتى دنا من القبر، قال: أَلْمِسْنِيه فألمسته فخرَّ مغشيًا على القبر، فرششت عليه شيئًا من الماء، فلما أفاق قال: يا حسين، يا حسين، يا حسين، ثلاثا، ثم قال: حبيبٌ لا يجيب حبيبه، ثم قال: أنى لك بالجواب؟ وقد شَخَبت أوداجك على أشباحك، وفُرِّق بين بدنك ورأسك، فأشهد أنك ابن خير النبيين، وابن سيد الوصيين، وابن حليف التقوى، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيد النقباء، وابن فاطمة سيدة النساء، وما بالك ألا تكون هكذا؟ وقد غذّتك كف محمد سيد النبيين، ورُبيت في حجور المتقين، وأُرضعت من ثدي الإيمان، وفُطمت بالإسلام، فطبت حيَّا وطبت ميتًا، غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة لفراقك، ولا شاكّة في الخير لك، فعليك سلام الله ورضوانه، فأشهد أنك مضيت على ما مضى عليه يحيى بن زكريا.
قال عطية: ثم جال ببصره حول القبر، ثم قال: السلام عليكم أيتها الأرواح الطيبة التي بفناء الحسين عليه السلام، وأناخت برحله، أشهد أنكم أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، وعبدتم الله حق عبادته حتى أتاكم اليقين.
والذي بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالحق لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه، قال عطية: فقلت لجابر بن عبدالله: وكيف ولم تهبط واديا، ولم تعل جبلا، ولم تضرب بسيف؟ والقوم قد فُرق بين رؤوسهم وأبدانهم، فأوتمت الأولاد، وأرملت الأزواج، فقال لي: يا عطية، سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من أحبَّ قومًا حُشر معهم، ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم)) أحدرني نحو أبيات كوفان، قال: فلما صرنا في بعض الطريق، قال لي يا عطية: هل أوصيك وما أظنني بعد هذه السفرة ألاقيك؟ أحبب محب آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما أحبهم، وابغض مبغض آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما أبغضهم، وإن كان صوامًا قوامًا.
وروينا عن هشام بن محمد قال: لما أُجري الماء على قبر الحسين بن علي عليهما السلام، نضب بعد الأربعين يومًا وامتحى أثر القبر، جاء أعرابي من بني أسد فجعل يأخذ قبضة قبضة ويشمه حتى وقع على قبر الحسين عليه السلام فشمه وبكى، وقال: بأبي وأمي ما كان أطيَبك وأطيب تربتك ميتًا! ثم أنشأ وجعل يقول:
أرادوا ليخفوا قبره عن عداوة ... فطيبُ تراب القبر دلَّ على القبر
وكان إجراء الماء على قبر الحسين بن علي عليهما السلام أوَّلاً في أيام بني أمية، ثم أجْرى الماء عليه المتوكل العباسي، وكان السبب في ذلك على ما رواه أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبين: أنه بعث إلى مغنِّية فعُرِّف أنها غائبة، وكانت قد زارت قبر الحسين عليه السلام، وبلغها خبره، فأسرعت الرجوع وبعثت إليه بجارية من جواريها كان يألفها، فقال لها: أين كنتم؟ قالت: حجّت مولاتي وأخرجتنا معها وكان ذلك في شعبان فقال: إلى أين حججتم في شعبان؟ فقالت: إلى قبر الحسين عليه السلام، فاستُطير غضبًا، وأمر بمولاتها فحبست واصطفى أملاكها، وبعث برجل من أصحابه كان يهوديًا يقال له: الديزج، فأسلمه إلى قبر الحسين فأمر بكرب قبره ومحوه وإخراب كل ما حوله فمضى لذلك وهدم البناء وكرب حوله نحوًا من مائتي جريب، فلما بلغ القبر لم يتقدم إليه، فأحضر قومًا من اليهود فكربوه، وأجروا الماء حوله، ووكل به مسالح بين كل مسلحتين ميل، لا يزوره زائر إلا أُخذ، ووجه به إليه.
قال الشيخ أبو الفرج: فحدثني محمد بن الحسين الأشناني، قال: بَعُدَ عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفًا، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها، فساعدني رجل من العطّارين على ذلك، فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل، حتى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل فصرنا بين مسلحتين وقد ناموا حتى أتينا القبر فخفي علينا، فجعلنا نشمه ونتحرى جهته، حتى أتينا وقد قلع الصندوق الذي كان حوليه وأحرق، وأجرى عليه الماء فانخسف موضع اللبن فصار كالخندق، فزرناه وأكببنا عليه، فشممت منه رائحة ما شممت مثلها لشيء من الطيب، فقلت للعطار الذي كان معي: أي رائحة هذه؟ فقال: والله ما شممت مثلها قط من الطيب، فودعناه، وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع، فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا إلى القبر، فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه.
ثم لما قام الداعي إلى الله محمد بن زيد الحسني عليه السلام أمر بعمارة المشهدين: مشهد أمير المؤمنين عليه السلام ومشهد الحسين عليهما السلام، وقيل: إنه أنفق في عمارتهما، عشرين ألف درهم، وبلغ عضد الدولة الغاية في تعظيمهما وعمارتهما والأوقاف عليهما، وكان يزور كل سنة. ولقد عيَّرَ بني العباس، ونعى عليهم قبيح أفعالهم في تخريب قبر الحسين بن علي عليهما السلام مولاهم أبو الحسين علي بن العباس الرومي حيث يقول:
فلم يقنعوا حتى استثارت قبورهم ... كلابهم منها بهيم وديزج
وهي قصيدة طويلة يذكر فيها فضل أهل البيت ومثالب بني العباس، ونحن نذكرها كاملة إنشاء الله تعالى في آخر هذا الكتاب. ولسليمان بن قتة يرثي الحسين ابن علي عليهما السلام:
فإنَّ قتيل الطف من آل هاشم ... أذلَّ رقابًا من قريش فذلَّت
فإن تتبعوه عائذ البيت تصبحوا ... كعاد تعمّت عن هداها فضلّت
مررت على أبيات آل محمد ... فألفيتها أمثالها حيث حلّت
وكانوا لنا غنمًا فأمسوا رزيةً ... لقد عظمت تلك الرزايا وجلّت
فلا يبعد الله الديار وأهلها ... وإن أصبحت منهم برغمي تخلّت
إذا افتقرت قيس جبرنا فقيرها ... وتقتلنا قيسٌ إذا النعل زلّت
وعند غني قطرةٌ من دمائنا ... سنجزيهم يومًا بها حيث حلّت
ألم تر أن الأرض أضحت مريضة ... لفقد حسين والبلادُ اقشعرت
ولأبي الأسود الدؤلي:
أقول وزادني جزعًا وغيظًا ... أزال الله مُلك بني زياد
وأبعدهم كما غدروا وخانوا ... كما بَعُدت ثمود وقوم عاد
ولا رجعت ركابُهم إليهم ... إذا قفّت إلى يوم التناد
وأنشد عوف بن عبدالله بن الأحمر قصيدة طويلة يحرض فيها الشيعة على القيام على قتلة الحسين بن علي عليهما السلام ويرثيه فيها، أولها:
صحوت وودّعت الصبا والغوانيا ... وقلت لأصحابي: أجيبوا المناديا
وقولوا له إذ قام يدعو إلى الهدى ... وقتل العدا: لبيك لبيك داعيا
وقودوا إلى الأعداء كل طِمِرَّةٍ ... عيوفٍ وقودوا السابحات المذاكيا
وسيروا إلى القوم المخلين ... حَسبةً وهزّوا الحراب نحوهم والعواليا
ألسنا بأصحاب الخريبة والأولى ... قتلنا بها التيمي حران باغيا
ونحن سمونا لابن هند بجحفل ... كركن دبا ترجى إليه الدواهيا
فلما التقينا بيّن الضربُ أيُّنَا ... بصفين كان الأضرع المتفاديا
دلفنا فأفلينا صدورهم بها ... غداة إذٍ زرقًا ظمآءً صواديا
وملنا رجالا بالسيوف عليهم ... نشق بها هاماتهم والتراقيا
فذدناهم من كل وجه وجانب ... وحزناهم حوز الرّعا المتاليا
زويناهم حتى أزلنا صفوفهم ... فلم نر إلا مستخفّا وكابيا
وحتى ظللت ما أرى من معقل ... وأصبحت القتلى جميعا ورائيا
وحتى أعاذوا بالمصاحف واتقوا ... بها وقعات يختطفن المحاميا
فدع ذكر ذا لا تيأسن من ثوابه عانيا ... وتب واعْن للرحمن إن كنت
ألا وانع خير الناس جدًا ووالدًا ... حسينًا لأهل الدين إن كنت ناعيا
لِيَبْكِ حسينًا كل ما ذرَّ شارق ... وعند غسوق الليل من كان باكيا
لِيَبْكِ حسينًا من رعى الدين والتقى ... وكان لتضعيف المثوبة راجيا
لِيَبكِ حسينًا كل غان ويائسٍ ... وأرملة لم تعدم الدهر لا حيا
لِيَبْكِ حسينًا مملق ذو خصاصةٍ ... عديم وأيتام تشكى المواليا
لحا الله قوما أشخصوه وغرروا ... فلم ير يوم البأس منهم محاميا
ولا موفيًا بالوعد إذ حمّس الوغى ... ولا زاجرًا عنه المضلين ناهيا
ولا قائلاً لا تقتلوه فتسحتوا ... ومن يقتل الزاكين يلقى المخازيا
فلم يك إلا ناكثًا أو مقاتلاً ... وذا فجرة يسعى عليه معاديا
سوى عصبة لم يعظم القتل عندهم ... يُشَبِّهُهَا الرآؤن أُسدًا ضواريا
وَقَوْهُ بأيديهم وحرِّ وجوههم ... وباعوا الذي يفنى بما كان باقيا
وأضحى حسين للرماح درية ... فغُودر مسلوبًا لدى الطف ثاويا
قتيلاً كأن لم يغن بالناس ليلة ... جزى الله قومًا أسلموه الجوازيا
فيا ليتني إذ ذاك كنت شهدته ... فضاربت عنه الشانئين الأعاديا
ودافعت عنه ما استطعت مجاهدًا ... وأعملت سيفي فيهم وسِنانيا
ولكن قعدت في معاشر ثُبِّطُوا ... وكان قعودي ضلة من ضلاليا
فما تنسني الأيام من نكباتها ... فإني لن ألفى له الدهر ناسيا
ويا ليتني غودرت فيمن أجابه ... وكنت له من مفظع القتل فاديا
ويا ليتني أخطرت عنه بأسرتي ... وأهلي وخلاني جميعًا وماليا
سقى الله قبرًا ضمِّن المجد والتقى ... بغربيَّة الطف الغمام الغواديا
فتى حين سيم الخسف لم يقبل التي ... تذل العزيز أو تجرُّ المخازيا
ولكن مضى لم يملأ الموت نحره ... فبورك مهديًا شهيدا وهاديا
ولو أن صدِّيقًا تزيل وفاته ... حصون البلاد والجبال الرواسيا
لزالت جبال الأرض من عظم فقده . وأضحى له الحصن المجصص خاويا
وقد كسفت شمس الضحى لمصابه ... وأضحت له الأفاق حمرًا بواديا
فيا أمةً تاهت وضلَّت عن الهدى ... أنيبوا فأرضُوا الواحد المتعاليا
وتوبوا إلى التوّاب من سوء صنعكم ... وإلا تتوبوا تلقوا الله عاتيا
وكونوا شراة بالسيوف وبالقنا ... تفوزوا وقدمًا فاز من كان شاريا
وفتيان صدق دون آل نبيهم ... أُصيبوا وهم كانوا الولاة الأدانيا
وإخواننا الأولى إذا الليل جنَّهم ... تلوا طُوَلَ الفرقان ثم المثانيا
أصابهم أهل الشناءة والعدى ... فحتى متى لا نبعث الجيش غازيا
وحتى متى لا أعتلي بمهنّد ... قذال ابن وقّاص وأدرك ثأريا
وإني زعيم إن تراخت منيتي ... بيوم لهم منَّا يُشيب النواصيا
وذلك أيام التوابين من الشيعة على خذلان الحسين، وهم عشرة آلاف رجل تقدموا من البصرة والكوفة والمدائن حتى لقوا جنود بني أمية، وقتلوا منهم ألوفا كثيرة، وقُتِلوا رحمهم الله بعين الوردة.
وجميع من أحصي من القتلى بسبب الحسين بن علي عليهما السلام في الأيام المروانية إلى سبعين ألفًا مع التوابين والمختار وابن الأشعث.
وروى السيد أبو الحسين يحيى بن الحسن العقيقي الحسيني رحمة الله عليه بإسناده عن ابن عباس قال: ((أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيما أوحى إليه إني قتلت بدم يحيى بن زكريا سبعين ألفا، وأني أقتل بدم الحسين بن بنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا)).
وروى بإسناده أيضا عن بعضهم: أنه سمع جنيَّة تنوح على الحسين عليه السلام وهي تقول:
أبكي ابن فاطمة الذي ... من موته شاب الشعر
ولِقَتْله زلزلتم ... ولقتله كسف القمر
وكان أهل المدينة يسمعون نوح الجن على الحسين بن علي عليهما السلام حين أصيب، وجنية تقول:
ألا يا عين فاحتفلي بجهدي ... ومن يبكي على الشهدآء بعدي
على رهط تقودهم المنايا ... إلى متجبر في مُلك عبد
وكان من نوحهم عليه عليه السلام:
مسح الرسول جبينه ... فله بَرِيقٌ في الخدود
أبواه من عليا قريش ... جَدُّه خير الجدود
زحفوا إليه بجمعهم ... وأولئكم شرُّ الجنود
قتلوا تقيًّا زاكيا ... لا أُسكنوا دار الخلود
ومن ذلك قول بعضهم:
ستبكيك نساء الجنْـ ... ــنِ يبكين شجيات
ويخمشن وجوها كالدْ ... ــدَنانير نقيات
ويلبسن ثياب السو ... د من بعد العصيبات
وللكميت بن زيد من قصيدة، ذكر فيها الحسين عليه السلام فقال:
ومن أعظم الأحداث كانت مصيبة ... علينا قتيل الأدعياء الملحّب
قتيلٌ بجنب الطف من آل هاشم ... فيا لك لحمٌ ليس عنه مُذبِّبُ
ومنعفر الخدين من آل هاشم ... ألا حبّذا ذاك الجبين المترّبُ
صريعٌ كأن الوُلَّه النُّكْدَ حوله ... يُطفْن به شُمَّ العرانين رَبْرَبُ
وله من أخرى وذكر فيها الحسين بن علي عليهما السلام وأهله فقال:
وشجو لنفسيَ لم أنسه ... بمعركة الطف فالمجنب
كأن خدودهم الواضحا ... ت بين المجرِّ إلى المسحب
صفائح بيض جلتها القيو ... ن مما تخيرن من يثرب
وله قصائد الهاشميات خمسمائة وبضعة وسبعون بيتًا يذكر فيها الحسين عليه السلام، وقتله، ولم يجسر أحد من شعراء الشيعة يرثيه خيفة من بني أمية إلا الكميت، وأبو ذهيل وهب الجمحي، وكثيِّر بن كثير السهمي، ولأبي طالب محمد بن عبدالله الجعفري:
لي نفس تحب في الله واللـ ... ــه حسينًا ولا تحبُّ يزيدا
يا ابن أكّالة الكبود لقد انـ ... ـضجت من لابسي الكساء الكبودا
أي هول ركبت عذَّبَكَ الرحـ ... ـــمن في ناره عذابًا شديدًا
لهف نفسي على يزيد وأشيا ... ع يزيد ضلوا ضلالاً بعيدا
أبا عبدالله يا بن رسول الـ ... ـله يا أكرم البرية عودا
ليتني كنت يوم كنت فأمسي ... فيك في كربلا قتيلاً شهيدا
ولمنصور بن سلمة بن الزبرقان النمري:
شاء من الناس راتع هامل ... يعللون الناس بالباطل
تقتل ذريّة النبي ويرجو ... ن دخول الجنان للقاتل
ويلك يا قاتل الحسين لقد بؤ ... ت بحمل يميل بالحامل
أيُّ حِباء حبوت أحمد فى ... حفرته من حرارة الثاكل
بأي وجه تلقى النبي وقد ... دخلت في قتله مع القاتل
تعال فاطلب غدًا شفاعته ... أولا فَرِدْ حوضه مع الناهل
ما الشك عندي في حال قاتله ... ولا أراني أشك في الخاذل
نفسي فداء الحسين حين غدا ... إلى المنايا غُدوّ لا قافل
ذلك يوم أنحى بشفرته ... على سنام الإسلام والكاهل
يا عاذلي إنني أحب بني أحـ ... ـمد فالترب في فم العاذل
كم ميت منهمو بغصته ... مغترب القبر بالعرا نازل
ما انتحبت حوله قرابته ... عند مقاساة يومه الباسل
اذكر مَنْهُمْ ومَنْ أصَابَهُمُ ... فيمنع الصلبُ سلوة الذاهل
مظلومة والنبي والدها ... تدير أرجاء مقلة حافل
ألا مصاليت يغضبون لها ... بسلة البيض والقنا الذابل
قد ذقتُ ما أنتم عليه فما ... رجعتُ من دينكم إلى طائل
من دينكم جفوة النبي وما الـ ... جافي لآل النبي كالواصل
وقال الشريف الرضي محمد بن الحسين الحسيني عليه السلام:
ولقد حبست على الديار عصابة ... مضمومة الأيدي إلى أكبادها
حسرى تجاذب بالبكاء عيونها ... وتعط بالزفرات من أبرادها
وقفوا بها حتى كأن مطيهم ... كانت قوائمهن من أوتادها
هل تطلبون من النواظر بعدكم ... شيئًا سوى عبراتها وسهادها
شَغَلَ العيونَ عن البكاء بكاؤنا ... لبكاء فاطمة على أولادها
أترى درت أن الحسين طريدة ... لقنا بني الطرداء عند ولادها
كانت مآتم بالعراق تعدُّها ... أمويةٌ بالشام من أعيادها
ما راقبت غضب النبي وقد غدا ... زرع النبي مظنّة لحصادها
جعلت رسول الله من خصمائها ... فلبئس ما ذخرت ليوم معادها
نسل النبي على صعاب مطيها ... ودم النبي على رؤوس صعادها
وا لهفتاه لعصبة علويّةٍ ... تبعت أمية بعد عز قيادها
جعلت عران الذل في آنافها ... وعلاط وَسْمِ الضيم في أجيادها
استأثرت بالأمر من غيّابها ... وقضت بما شاءت على شُهادها
طلبت تراث الجاهلية عندها ... وشفت قديم الغِل من أحقادها
زعمت بأن الدين سوّغ قتلها ... أوليس هذا الدين عن أجدادها
الله سابقكم إلى أرواحها ... وكسبتم الآثام في أجسادها
أخَذَتْ بأطراف الفخار فعاذرٌ ... أن يصبح الثقلان من حُسادها
تروي مناقب فضلها أعداؤُها ... أبدًا وتسنده إلى أضدادها
قف بي ولو لوْثُ الإزار وإنما ... هي مهجة عَلِقَ الهوى بفؤادها
القفر من أوراقها والطير من ... طُرّاقها والوحش من عُوّادها
يا عترة الله اغضبي لنبيه ... وتزحزحي بالبيض عن أغمادها
بالطف حيث غدا مُرَاق دمائها ... ومناخ أينقها ليوم جلادها
هذا المقال وما بلغت وإنما ... هي حَلْبَةٌ خلعوا عذار جوادها
أأقول جادكم الربيع وأنتمُ ... في كل منزلة ربيع بلادها
أغنى ضياء الشمس عن أوصافها ... بضيائها وحلالها وبعادها
ذِكْرُ نُكَتٍ مِنْ كَلامِهِ وَسِيْرَتِهِ عليه السلام
خرج عليه السلام من المدينة حين ورد نعي معاوية، وطلب بالبيعة ليزيد، وامتنع من ذلك يوم الأحد لليلتين بقيتا من رجب سنة ستين إلى مكة، ودخلها ليلة الجمعة لثلاث خلون من شعبان، ووردت عليه كتب أهل الكوفة كتاب بعد كتاب - وهو بمكة - بالبيعة في ذي الحجة من هذه السنة، ولما وافته بيعة أهل الكوفة خرج من مكة سائرا إليها لثمان خلون من ذي الحجة.
وروي أنه لما أراد الخروج إلى العراق خطب أصحابه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن هذه الدنيا قد تنكرت وأدبر معروفها، فلم يبق إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيشٍ كالمرعى، ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يُنهى عنه، لِيَرْغَب المرؤ في لقاء ربه، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا شقاوة.
فقام إليه زهير بن القين العجلي فقال: قد سمعت مقالتك هديت، ولو كانت الدنيا باقيةً وكنا فيها مخلّدين، وكان في الخروج مواساتك ونصرتك، لاخترنا الخروج منها معك على الإقامة فيها، فجزاه الحسين بن علي عليهما السلام خيرًا ثم قال:
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى ... إذا ما نوى حقًّا وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بنفسه ... وفارق مثبورًا، وحارب مجرما
فإن عشت لم أندم، وإن مت لم أُلمْ ... كفى بك داءً أن تعيش وترغما
فلما نزل بستان بني عامر كتب إلى محمد أخيه وأهل بيته: من الحسين بن علي إلى محمد بن علي وأهل بيته أما بعد:
فإنكم إن لحقتم بي استشهدتم، وإن تخلفتم عني لم تلحقوا النصر، والسلام.
فلما وافى زُبالة استقبله الطرماح الطائي الشاعر، فقال له الحسين عليه السلام: من أين خرجت؟ قال: من الكوفة، قال: كيف وجدت أهل الكوفة؟ قال: يا ابن رسول الله قلوبهم معك، وسيوفهم عليك.
فقال له الحسين عليه السلام: صدقت، الناس عبيد الدنيا، والدِّينُ لغوٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درَّت معائشهم فإذا امتُحنوا بالبلاء قلَّ الديّانون.
فلما وافى كربلاء قال: في أي موضع نحن؟ قالوا: بكربلاء، قال: كربٌ والله وبلاء، هاهنا مناخ ركابنا، ومهراق دمائنا، ثم أقبل في جوف الليل يتمثل ويقول:
يا دهر أُفٍّ لك من خليل ... كم لك بالإشراق والأصيلِ
من ميّتٍ وصاحبٍ قتيلِ ... والدهر لا يقنع بالبديل
وكل حيٍّ سالكُ السبيل
فقالت له أخته زينب: لعلك تخبرنا بأنك تغصب نفسك؟ فقال عليه السلام: لو ترك القطا لنام.
وفي بعض أخباره عليه السلام أنه لما بلغ بستان بني عامر لقي الفرزدق بن غالب - الشاعر، فقال: أين تريد يا ابن رسول الله؟ ما أعجلك عن الموسم؟ وذلك يوم التروية، فقال: لو لم أعجل لأخِذْتُ أخذًا، فأخبرني يا فرزدق الخبر؟ قال: تركت الناس قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية، قال: صدَقني الخبر ..
ثم مرّ الحسين عليه السلام حتى إذا كان مكانه الذي كان فيه من بستان بني عامر بمرحلة أو مرحلتين لقي عبدالله بن مطيع العدوي، فقال له: أين تريد يا ابن رسول الله؟ قال: أريد الكوفة فإن أهلها كتبوا إليَّ، قال: فإني أنشدك يا ابن رسول الله بالبيت الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام أن تعرض نفسك لبني مروان؛ فوالله لئن عرّضت نفسك لهم ليقتلنك، قال: فمضى على وجهه عليه السلام.
وروينا عن زيد بن علي عن أبيه عليهم السلام: أن الحسين بن علي عليهما السلام خطب أصحابه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، خُطَّ الموت على بني آدم كخط القلادة على جيد الفتاة، ما أولعني بالشوق إلى أسلافي اشتياق يعقوب عليه السلام إلى يوسف عليه السلام وأخيه، وإنّ لي مصرعًا أنا لاقيه كأني أنظر إلى أوصالي تقطعها وحوش الفلوات غبرًا وعفرًا، قد ملأت مني أكراشها، رِضَى اللهِ رضانا أهلَ البيت نصبر على بلائه؛ ليوفينا أجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حُرْمَتُهُ وعترتُه، ولن تفارقه أعضاؤه وهي مجموعة في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه، وتنجز لهم عدته، من كان فينا باذلا مهجته فليرحل فإني راحلٌ غدًا إن شاء الله تعالى، ثم نهض إلى عدوه.
وقد كان عليه السلام لما أتته رسل أهل الكوفة، وقالوا: قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي، فاقدم إلينا، فبعث عليه السلام إلى مسلم بن عقيل ابن عمه فقال له: سر إلى الكوفة فانظر ما كتبوا به إليَّ فإن كان حقًّا خرجت إليهم، فخرج مسلم حتى أتى المدينة، فأخذ منها دليلين فمرّا به في البريّة فأصابهم عطش فمات أحد الدليلين، فكتب مسلم إلى الحسين عليه السلام يستعفيه، فكتب إليه الحسين عليه السلام أن امض إلى الكوفة، فخرج حتى قدمها، فنزل على رجل من أهلها يقال له عوسجة، فلما تحدث أهل الكوفة بمقدمه دنوا إليه، فبايعه منهم اثنا عشر ألفا، فقام رجل ممن يهوى يزيد إلى النعمان، فقال له: إنك لضعيف أو متضعف قد فسد البلاد، فقال النعمان: أكون ضعيفًا في طاعة الله عز وجل أحبَّ إليّ من أن أكون قو يًّا في معصية الله، وما كنت لأهتك سترًا ستره الله عز وجل، فكتب بقوله إلى يزيد بن معاوية، فدعى يزيد مولى له يقال له: سرجون، قد كان يستشيره فأخبره الخبر، فقال له: أكنتَ قابلاً من معاوية لو كان حيا قال: نعم، قال: فاقْبَلْ مني إنه ليس للكوفة إلا عبيدالله بن زياد فولها إياه، وكان يزيد عليه ساخطًا، وقد كان همَّ بعزله، وكان على البصرة فكتب إليه برضاه وأنه قد ولاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إن وجده، فأقبل عبيدالله في وجوه أهل البصرة حتى قدم الكوفة متلثمًا، فلا يمر على مجلس من مجالسهم فيسلم عليهم إلا وقالوا: وعليك السلام يا ابن بنت رسول الله، وهم يظنون أنه الحسين بن علي عليهما السلام حتى نزل بالقصر، فدعى مولىً له فأعطاه ثلاثة آلاف درهم، فقال له: اذهب حتى تسأل عن الرجل الذي يبايع أهل الكوفة فأعلمه أنك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر، وهذا مال فادفعه إليه ليقوى به، فخرج الرجل فلم يزل يتلطف ويرفق حتى دُلَّ على شيخ يلي البيعة، فلقيه فأخبره الخبر، فقال له الشيخ: لقد سرَّني لقاؤك إياي،
ولقد سآءني: فأما ما سرّني من ذلك فما هداك الله عز وجل له، وأما ما سآءني فإن أمرنا لم يستحكم بعد، فأدخله على مسلم فأخذ منه المال وبايعه، ورجع إلى عبيدالله فأخبره، وتحول مسلم بن عقيل حين قدم عبيدالله من الدار التي كان فيها إلى منزل هانئ بن عروة المرادي.
وكتب مسلم بن عقيل إلى الحسين عليه السلام يخبره ببيعة اثني عشر ألفًا من أهل الكوفة ويأمره بالقدوم، قال: وقال عبيدالله لوجوه أهل الكوفة: ما بال هانئ بن عروة لم يأتني فيمن أتاني؟! قال: فخرج إليه محمد بن الأشعث، وأناس منهم، فأتوه وهو على باب داره، فقال له: إن الأمير قد استبطأك فانطلق إليه، فلم يزالوا به حتى ركب معهم فدخلوا به على عبيدالله، وعنده شريح القاضي، فلما نظر إليه قال لشريح: أتتك بحائن رجلاه، فلما سلم عليه قال له: يا هانئ، أين مسلم؟ قال: ما أدري، فأمر عبيدالله صاحب الدراهم فخرج إليه، فلما رآه قطع به، قال: أصلح الله الأمير، والله ما دعوته إلى منزلي، ولكنه جاء فطرح نفسه علي، قال: ائتني به، قال: والله لو كان تحت قدميّ ما رفعتهما عنه، قال: أدنوه إليَّ، فأدنوه فضربه بالقضيب فشجه على حاجبه، وأهوى هانئ إلى سيف شرطي ليستلَّه فدُفع عن ذلك، وقال له: قد أحلَّ الله دمك، وأمر به فحُبس في جانب القصر، وخرج الخبر إلى مدحج فإذا على باب القصر جَلَبةٌ سمعها عبيدالله بن زياد، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مدحج، فقال لشريح: اخرج إليهم فأعلمهم أني إنما حبسته لأسائله، وبعث عينا إليه من مواليه يسمع ما يقول: فمر شريح بهانئ، فقال هانئ: يا شريح اتق الله فإنه قاتلي، فخرج شريح حتى قام على باب القصر فقال: لا بأس عليه، إنما حبسه الأمير ليسائله، فقالوا: صدق ليس على صاحبكم بأس، فتفرّقوا، وأتى مسلم الخبر فنادى بشعاره، فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة، فقدّم مقدمه، وهيَّأ ميمنة وميسرة، وسار في القلب إلى عبيدالله، وبعث عبيدالله إلى وجوه أهل الكوفة فجمعهم عنده في القصر، فلما سار إليه مسلم، فانتهى إلى باب القصر أشرفوا من فوقه على عشائرهم، فجعلوا يكلمونهم ويردونهم، فجعل أصحاب مسلم يتسللون حتى أمسى في خمسمائة، فلما اختلط الظلام ذهب أولئك أيضًا، فلما رأى مسلم أنه قد بقي وحده تردّد في الطرق، فأتى بابا فنزل عليه، فخرجت إليه امرأة، فقال لها: اسقيني ماء؛ فسقته ثم دخلت فمكثت ما شاء الله ثم خرجت فإذا هو على الباب، قالت: يا عبدالله إن مجلسك مجلس ريبة فقم، فقال: أنا مسلم بن عقيل فهل عندك مأوى؟ قالت: نعم ادخل، وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث، فلما علم به الغلام انطلق فأخبره، فانطلق محمد إلى عبيد الله فأخبره، فبعث عبيدالله عمرو بن حريث المخزومي صاحب شرطته إليه ومعه محمد، فلم يعلم مسلم حتى أحيط بالدار، فلما رأى ذلك مسلم خرج إليهم بسيفه فقاتلهم فأعطاه محمد الأمان فأمكن من يده، فجاء به إلى عبيدالله بن زياد فأمر به فأصعد إلى أعلى القصر فضربت عنقه وألقى جثته إلى الناس، وأمر بهانئ فسحب إلى الكناسة فصلب هناك، وقال شاعرهم:
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري ... إلى هانئٍ بالسوق وابن عقيل
أصابهما أمر الأمير فأصبحا ... أحاديث من يسعى بكل سبيل
أتركب أسماء الهماليج آمنًا ... وقد طلبته مذحج بقتيل
وأقبل الحسين عليه السلام بكتاب مسلم إليه حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال لقيه الحرُّ بن يزيد التميمي فقال له: أين تريد؟ قال: أريد هذا المصر، قال له: ارجع فإني لم أدع لك خلفي خيرًا أرجوه، فهمَّ أن يرجع، وكان معه إخوة مسلم بن عقيل فقالوا: والله لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نقتل، فقال: لا خير في الحياة بعدكم فسار، فلقيه أول خيل عبيدالله بن زياد، فلما رأى ذلك عدل إلى كربلاء وأسند ظهره إلى قصب أو خلاف لا يقاتل إلا من وجه واحد، فنزل وضرب أبنيته، وكان أصحابه خمسة وأربعين فارسًا، ونحوًا من مائة راجل، وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص قد ولاه عبيدالله بن زياد وعهد إليه عهدًا، فقال: اكفني هذا الرجل، فقال: اعفني، فأبى أن يعفيه، قال: فأنظرني الليلة، فأخره فنظر في أمره، فلما أصبح غدا عليه راضيا بما أمره به، فتوجه عمر بن سعد إلى الحسين بن علي عليه السلام، فلما أتاه، قال له الحسين عليه السلام: اختر واحدةً من ثلاث: إما أن تَدَعُوني فألحق بالثغور، وإما أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تدعوني فأنصرف من حيث جئت، فقبل ذلك عمر بن سعد، فكتب إلى عبيدالله ابن زياد، فكتب إليه عبيدالله: لا ولا كرامة حتى يضع يده في يدي، فقال الحسين ابن علي عليهما السلام: لا والله لا يكون ذلك أبدًا.
قائمة بأئمة الزيدية بحسب المنطقة
هو أبو عبدالله الحسين بن علي عليهما السلام.
وأمه: فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان بين ولادتها للحسن ابن علي وعلوقها بالحسين خمسون ليلة، وولد عليه السلام لخمس ليال خلون من شهر شعبان سنة أربع من الهجرة، وأذّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أذنه عند ولادته بالصلاة، وعقَّ عنه في اليوم السابع، وحلقت أمه عليها السلام رأسه، وتصدقت بوزنه فضةً على المساكين، وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسينًا.
وروينا عن أم الفضل ابنة الحارث: أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إني رأيت حلمًا منكرًا الليلة.
قال: وما هو؟ قالت: إنه شديد! قال: وما هو؟ قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خيرًا رأيت، تلد فاطمة غلامًا فيكون في حجرك [قالت]، فولدت فاطمة الحسين، وكان في حجري كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدخلت يوما على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوضعته في حجره، ثم كانت مني التفاتة، فإذا عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تهريقان بالدموع، فقلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله مالك؟ قال: أتاني جبريل عليه السلام
وأخبر بأن أمتي ستقتل ابني هذا، وأتاني بتربة من تربة حمراء!.
وروي أن فاطمة عليها السلام لما ولدت الحسن عليه السلام قالت لعلي عليه السلام سمِّه، قال علي عليه السلام: وكنت رجلاً محرابا أحب أن أسميه حربا، ثم قلت ما كنت لأسبق باسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل له: سمِّه. فقال: وما كنت لأسبق باسمه ربي جل وعز، فأوحى الله تعالى إلى جبريل: إنه ولد لمحمد ابن، فاهبط فأقره السلام، وَهَنِّهِ وقل له: إن عليًّا منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون، فهبط جبريل فهناه من الله تعالى، ثم قال: إن الله يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون، فقال: وما كان اسمه؟ قال: شبر. قال: لساني عربي: قال: فسمه الحسن. فسماه الحسن.
فلما ولد الحسين أوحى الله إلى جبريل: قد ولد لمحمد ابن، فاهبط إليه وهنه وقل له: إن عليًّا منك بمنزلة هارون من موسى، فسمه باسم ابن هارون.
فلما نزل جبريل وهنَّاه وبلَّغه الرسالة، قال: وما كان اسم ابن هارون؟ قال: شبير.
قال: لساني عربي. قال: فسمِّه الحسين. قال: فسماه الحسين.
صفته (ع)
كان يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سرَّته إلى قدمه، وروي أنه كان شديد البياض حتى كان يهتدى إلى موضعه في الليل المدلهم؛ لشدة بياض وجهه ونحره.
ذكر طرف من أحواله ومناقبه (ع)
هو عليه السلام ابن محمد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء، وخامس أهل الكساء، الذين شهد بتطهيرهم التنزيل، وأثنى عليهم الملك الجليل، قال سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] فهم المطهرون من الأدناس، المفضَّلون على جميع الجِنَّةِ والناس، ولله القائل:
بأبي خمسة هم جُنِّبُوا الرج ... ـس كرامٌ وطهِّروا تطهيرا
أحمد المصطفى وفاطم أعني ... وعليًّا وشبَّرًا وشبيرا
من تولاهم تولاه ذو العر ... ش ولقّاه نضرة وسرورا
وعلى مبغضيهمُ لعنة اللـ ... ــه وأصلاهم المليك سعيرًا
وفي الرواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمل الحسن والحسين عليهما السلام ذات يوم على عاتقه، وهو يقول: ((نعم المطي مطيكما، ونعم الراكبان أنتما، وأبوكما خيرٌ منكما)) وفي ذلك ما يقول الشاعر:
أتى حسنًا والحسينَ الرسو ... لُ وقد برزا ضحوة يلعبان
فضمهما وتفداهما ... وكانا لديه بذاك المكان
ومر وتحتهما منكباه ... فنعم المطيةُ والركبان
وروينا عن عبدالله بن عمرو الخزاعي عن هند ابنة الجون قالت: نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيمة أم معبد، ومعه أصحاب له وكان من أمره في الشاة ما قد علمه الناس، فَقَالَ في الخيمة هو وأصحابه حتى أبردوا، وكان يومًا قائظًا شديدًا حرُّه، فلمَّا قام من رقدته دعا بماء فغسل يديه فأنقاهما، ثم مضمض فاه ومجَّه إلى عوسجة كانت إلى جانب خيمة خالية، فلما كان من الغد أصبحنا وقد غلظت تلك العوسجة حتى صارت أعظم دوحة عادية رأيتها، وقد شذب الله شوكها، وساخت عروقها واخضرَّ ساقها وورقها، ثم أثمرت بعد ذلك وأينعت بثمر أعظم ما يكون من الكمئة في لون الورس المسحوق، ورائحة العنبر، وطعم الشهد، والله ما أكل منها جائع إلا شبع، ولا ظمئان إلا روي، ولا سقيم إلا بري، ولا أكل من ورقها بعير ولا ناقة ولا شاة إلا دَرَّ لبنها، ورأينا النماء والبركة في أموالنا منذ نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخصبت بلادنا وأمرعت، فكنا نسمي تلك الشجرة: المباركة، وكان من ينتابنا من حولنا من البوادي يستشفون بها، ويتزودون من ورقها، ويحملونها معهم في الأرض والقفار، فيقوم لهم مقام الطعام والشراب، فلم نزل كذلك وعلى ذلك حتى أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها، واصفر ورقها، فحزنا لذلك وفزعنا له فما كان إلا قليلا حتى جاء نعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا هو قد قبض في ذلك اليوم، فكانت بعد ذلك تثمر دونه في الطعم والعِظَمِ والرائحة، وأقامت على ذلك ثلاثين سنة، فلما كان ذات يوم أصبحنا فإذا بها قد أشوكت من أولها إلى آخرها، وذهبت نضارة عيدانها، وتساقط جميع ثمرها، فما كان إلا يسيرًا حتى وافانا مقتل أمير المؤمنين عليه السلام، فما أثمرت بعد ذلك قليلاً ولا كثيرًا، وانقطع ثمرها، ولم نزل ومن حولنا نأخذ من ورقها ونداوي به مرضانا، ونستشفي به من أسقامنا، فأقامت على ذلك مدة وبرهة طويلة، ثم أصبحنا وإذا بها يومًا قد انبعث من ساقها دم عبيط جار، وورقها ذابل يقطر ماء كماء اللحم، فعلمنا أن قد حدث حدثٌ عظيم، فبتنا فزعين مهمومين نتوقع الداهية، فأتانا بعد ذلك قتل الحسين بن علي عليهما السلام، ويبست الشجرة وجفت وكسرتها الرياح والأمطار بعد ذلك، فذهبت واندرس أصلها.
قال محمد ابن سهل - وهو من رواة الحديث: فلقيت دعبل بن علي الخزاعي بمدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فحدثته بهذا الحديث، فقال حدثني أبي عن جده عن أمه سُعدى بنت مالك الخزاعية أنها أدركت تلك الشجرة، وأكلت من ثمرها على عهد أمير المؤمنين علي عليه السلام، قال دعبل: فقلت قصيدتي:
زر خير قبر بالعراق يزار ... واعص الحمار فمن نهاك حمار
لِمَ لا أزورك يا حسين لك الفدا ... نفسي ومن عطفت عليه يزار
ولك المودة في قلوب ذوي النهى ... وعلى عدوك مقتة ودمار
وروينا عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إ ذا كان يوم القيامة كنت وولداك على خيل بُلْقٍ، متوّجة بالدر والياقوت، فيأمر الله تعالى بكم إلى الجنة والناس ينظرون)).
وروينا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((حسينٌ مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينًا حسين سبط من الأسباط)).
وروينا بالإسناد عن عمرو بن مسعدة قال: دخلت على المأمون وبين يديه كتاب ينظر فيه، وعيناه تجريان بالدموع، قال عمرو: فقلت: يا أمير المؤمنين ما في هذا الكتاب الذي أبكاك لا أبكى الله عينك؟ قال: يا عمرو، هذا مقتل أمير المؤمنين علي، والحسين بن علي صلوات الله عليهما.
فقلت: يا أمير المؤمنين إن الخاصة والعامة قد كثرت في أمرهما، فما يقول أمير المؤمنين في أهل الكساء؟ قال: فتنفس الصعداء، ثم قال: هيهٍ يا عمرو، هم والله آلُ الله، وعترة المرسل الأوّاه- يعني إبراهيم عليه السلام وسفينة النجاة، وبدُور ظلام الدجى، وبحور بغاة الندى، وغيث كل الورى، وأشبال ليث الدين، ومبيد المشركين، وقاصم المعتدين، وأمير المؤمنين، وأخي رسول رب العالمين، صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، هم والله المعلنوا التقى، والمسرُّوا الهدى، والمعلموا الجدوى، والناكبون عن الرَّدى، لا لُحُظ ولا جُحُظ، ولا فُظُظٌ غُلُظ، وفي كل موطن يُقُظ، هامات هاماتٍ، وسادات سادات، غيوث جاراتٍ، وليوث غابات، أولو الأحساب الوافرة، والوجوه الزاهرة الناضرة، ما في عودهم خَوَرٌ، ولا في زندهم قِصَرٌ، ولا في صفوهم كَدَرٌ، ثم ذكر الحسن والحسين عليهما السلام، فهمل منه دمع العين، في حلبة الخدين، كفيض الغرتين، ونظم السمطين، وهي من القرطين، ثم قال: هما والله كبدري دجى، وشمسي ضحى، وسيفي لقاء، ورمحي لواء، وطودي حجى، وكهفي تقى، وبحري ندى، وهما ريحانتا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وثمرتا فؤاده، والناصرا دين الله تعالى، ولدا بين التحريم والتحليل، ودرجا بين التأويل والتنزيل، رضيعا لبان الدين والإيمان، والفقه والبرهان، وحكمة الرحمن، سيدا شباب أهل الجنة، ولدتهما البتول الصادقة بنت خير الشباب والكهول، وسماهما الجليل، ورباهما الرسول، وناغاهما جبريل، فهل لهؤلاء من عديل؟ بررةٌ أتقياء، ورثة الأنبياء، وخزنة الأوصياء، قتلهم الأدعياء وخذلتهم الأشقياء، ولم تَرْعَوِ الأمة من قتل الأئمة، ولم تحفظ الحرمة، ولم تحذر النقمة، ويل لها ماذا أتت! بسخط من تعرّضت! في رضى مَن سعت! طلبت دنيا قليل عظيمُها، حقيرٍ جسيمُها، وِرْدَ المعاد أغفلت، إذا الجنة أزلفت، وإذا الجحيم سعرت، وإذا القبور بعثرت، ولحسابها جمعت، ويل لها ماذا حُرِمت، عن روح الجنان ونعيمها صُرفت، وعن الولدان والحور غُيِّبت، وإلى الجحيم صُيرت، ومن الضريع والزقوم أُطعمت، ومن المهل والصديد والغسلين سُقيت، ومع الشياطين والمنافقين قُرنت، وفي الأغلال والحديد صُفِّدت، ويل لها ماذا أتت، ثم هملت عيناه، وكثر نحيبه وشهيقه، فقلت: يا أمير المؤمنين يشفيك ما إليه صار القوم، فقال: نعم إنه لشفاء، ولكني أبكي لأشجان وأحزان تحركها الأرحام وقال:
لا تقبل التوبة من تائب ... إلا بحب ابن أبي طالب
حب علي واجبٌ لازم ... في عنق الشاهد والغائب
أخو رسول الله حلْفُ الهدى ... والأخ لا يُعدل بالصاحبِ
لو جمعا في الفضل يومًا لقد ... نال أخوه رغبة الراغبِ
بعد علي حب أصحابه ... ما أنا بالمزري ولا العائبِ
إن مال عنه الناس في جانب ... ملت إليه الدهر في جانبِ
جاءت به السنة مقبولة ... فلعنة الله على الناصبِ
حبهم فرض علينا لهم ... كمثل حج لازم واجبِ
وروينا عن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه، والبيت غاصٌ بمن فيه قال: ادعوا لي الحسن والحسين قال: فجعل يلثمهما حتى أغمي عليه، قال: فجعل علي عليه السلام يرفعهما عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ففتح عينيه، فقال: ((دعهما يتمتعان مني وأتمتع منهما، فإنه سيصيبهما بعدي أَثَرَةٌ، ثم قال: أيها الناس، إني خلفت فيكم كتاب الله وسنتي وعترتي أهل بيتي، فالمضيع لكتاب الله كالمضيع لسنتي، والمضيع لسنتي كالمضيع لعترتي، أما إن ذلك لن يفترقا حتى اللقاء على الحوض)).
ذكر أولاده ووفاته (ع)
أولاده عليه السلام:
علي الأكبر في قول العقيقي، وكثير من الطالبية، وهو الأصغر في قول الكلبي ومصعب بن الزبير، وكثير من أهل النسب. وله العقب، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان. وروى عن جده أمير المؤمنين عليهما السلام.
وعبدالله بن الحسين. قتل مع أبيه بالطف جاءته نشابة وهو في حجر أبيه فقتلته، وأمهما واحدة.
وعلي الأصغر في قول العقيقي وكثير من الطالبية لا عقب له، قتل مع أبيه، وهو الأكبر في قول من ذكرنا من أهل النسب، وأمه: ليلى ابنة أبي مرة ابن عروة بن مسعود الثقفية، وأمها: ميمونة ابنة أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس، ولهذا ناداه رجل من أهل الشام حين برز للقتال بين يدي أبيه صلوات الله عليه، وقال له: إن لك رحما بأمير المؤمنين يعني يزيد، وهو يريد رحم ميمونة ابنة أبي سفيان، فإن شئت أمناك! فقال له: ويلكم لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحق أن ترعى! وقاتل حتى قُتل.
وجعفر دَرَجَ صغيرًا، وأمه بلوية من بلي بن قضاعة، وذكر بعض أهل النسب إبراهيم، ومحمدًا، وليس يعرفهما الطالبيون.
والعقب من ولد الحسين عليه السلام لواحد وهو: علي بن الحسين الأكبر في قول الطالبية، والأصغر في قول كثير من أهل النسب.
ومن البنات: فاطمة وأمها أم إسحاق ابنة طلحة بن عبيدالله عقبها في ولد الحسن بن الحسن عليهما السلام، وفي ولد عبدالله بن عمرو بن عثمان الملقب بالمِطرَف. وأمها الجرباء، وسميت الجرباء؛ لأنه كان لا يجلس معها أحد لجمالها وحسنها، فلما تحامى النساء الجلوس معها شبهت بالناقة الجرباء التي يحمي صاحب الإبل إبله عنها، وهي الجرباء ابنة قسامة بن رومان من طي.
وسكينة واسمها: آمنة، وأمها: الرباب ابنة امرئ القيس بن عدي بن أوس، وسكينة انقرض عقبها إلا من ولد عبدالله بن عثمان بن عبدالله بن حكيم ابن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى، فإنها ولدت له عثمان الملقب بقرين، وحكيمًا، وربيحة.
مقتله عليه السلام وموضع قبره وما يتصل بذلك
روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((يقتل ابني الحسين بظهر الكوفة، الويل لقاتله وخاذله، ومن ترك نصرته)) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((تحشر ابنتي فاطمة ومعها ثياب مصبوغة بدم، فتعلق بقائمة من قوائم العرش وتقول: يا عدل يا جبار احكم بيني وبين قاتل ولدي، قال صلى الله عليه وآله وسلم فيحكم لابنتي ورب الكعبة)).
وروينا من أمالي السيد المرشد بالله أبي عبدالله يحيى بن الحسين الحسني عليه السلام يرفعه إلى عبدالله بن عمرو بن العاص أن معاذ بن جبل أخبره، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متغير اللون فقال: ((أنا محمد أوتيت فواتح الكلام وخواتمه فأطيعوني ما دمت بين أظهركم، فإذا ذُهب بي فعليكم بكتاب الله عز وجل أحلُّوا حلاله وحرموا حرامه، أتتكم الموتة، أتتكم الروح والراحة، كتاب من الله سبق، أتتكم فتن كقطع الليل المظلم، كلما ذهب رَسْلٌ جاء رسل، تناسخت النبوة فصارت مُلْكًا، رحم الله من أخذها بحقها، وخرج منها كما دخلها. أمسك يا معاذ وأحص)) قال: فلما بلغت خمسة قال: يزيد لا بارك الله في يزيد، ثم ذرفت عيناه صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: نُعي إلي الحسين وأُتيت بتربته، وأخبرتُ بقاتله، والذي نفسي بيده لا يقتل بين ظهراني قوم لا يمنعونه إلا خالف الله بين صدورهم وقلوبهم، وسلط عليهم شرارهم، وألبسهم شيعًا، ثم قال: واها لفراخ آل محمد من خليفة مستخلَف مترف يقتل خلفي وخلف الخلف أمسك يا معاذ، فلما بلغت عشرة، قال: الوليد اسم فرعون هادم شرائع الإسلام، يبوء بدمه رجل من أهل بيته، يسأل الله سيفه فلا غماد له، واختلف الناس فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه، ثم قال: بعد العشرين ومائة موتٌ سريع، وقتل ذريع، وفيه هلاكهم، ويلي عليهم رجل من ولد العباس))
وروينا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((قاتل الحسين في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل النار، قد شُدَّت يداه ورجلاه بسلاسل من نار، منكس في النار، حتى يقع في قعر جهنم، وله ريح يتعوذ أهل النار إلى ربهم من شدّة ريحٍ نتنه، وفيها خالدٌ ذائق العذاب الأليم، لا يفتر عنهم ساعة، ويسقى من حميم جهنم، الويل لهم من عذاب الله عز وجل)).
وروينا عن عائشة رحمها الله قالت: دخل الحسين بن علي عليهما السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يوحى إليه، فنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مُنْكَبٌّ ولعب على ظهره، فقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتحبُّه يا محمد؟ قال: يا جبريل ومالي لا أحب ابني! قال: فإن أمَّتك ستقتُله من بعدك، فمد جبريل يده فأتاه بتربة بيضاء، فقال: في هذه الأرض يقتل ابنك، واسمها الطفُّ، فلما ذهب جبريل صلى الله عليه وآله وسلم من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتربة في يده وهو يبكي فقال: يا عائشة إن جبريل أخبرني أن الحسين إبني مقتول في أرض الطف، وأن أمتي ستفتتن بعدي، ثم خرج إلى أصحابه ومنهم عليٌّ، وأبو بكر، وعمر، وحذيفة، وعمار، وأبو ذر، وهو يبكي فقالوا: ما يُبكيك يا رسول الله؟ قال: أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة، فأخبرني جبريل عليه السلام أن فيها مضجعه.
ولما اضطر عليه السلام إلى محاربة القوم وعبَّا عمر بن سعد أصحابه لمحاربة الحسين عليه السلام، ورتَّبهم مراتبهم، وأقام الرايات في مواضعها، وعبَّأ أصحاب الميمنة والميسرة، وقال لأصحاب القلب: اثبتوا، وأحاطوا بالحسين عليه السلام من كل جانب حتى جعلوه في مثل الحلقة، فخرج عليه السلام حتى أتى الناس، فاستنصتهم فأبوا أن ينصتوا حتى قال لهم: ويلكم ما عليكم أن تنصتوا لي فتسمعوا قولي؛ فإني إنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمن أطاعني كان من المهتدين والمرشدين، ومن عصاني كان من المهلكين، وكلكم عاص لأمري، غير مستمع قولي، فقد انجزلت عطياتكم من الحرام، وملئت بطونكم من الحرام، فطُبع على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون؟ ألا تستمعون؟ فتلاوم أصحاب عمر بن سعد بينهم وقالوا: أنصتوا له، فأنصتوا، فقام الحسين عليه السلام فيهم: فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: تبًّا لكم أيتها الجماعة وترحا، أفَحين استصرختمونا وَلِهِينَ متحيِّرين، فأصرخناكم موجزين مستعدِّين، سللتم علينا سيفًا في رقابنا! وحششتم علينا نار الفتن، جناها عدوُّكم وعدوُّنا، فأصبحتم إلبًا على أوليائكم، ويدًا عليهم لأعدائكم، لغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم، وخسيس عيش طعمتم فيه، من غير حدث كان منا، ولا رأي تفيَّل، فهلا لكم الويلات تجهمتمونا والسيف لم يشهر، والجأش طامن، والرأي لم يستخف، ولكن أسرعتم إلينا كطيرة الذباب، وتداعيتم كتداعي الفراش، فقبحًا لكم فإنما أنتم من طواغيت الأمة، وشذاذ الأحزاب، وَنَبذَةِ الكتاب، وَنفَثَةِ الشيطان، وعصبة الآثام، ومحرفي الكتاب، ومطفئ السنن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومبيري عترة الأوصياء، وملحقي العهار بالنسب، ومؤذي المؤمنين، وصراح أئمة المستهزئين، الذين جعلوا القرآن عضين، وأنتم ابن حرب وأشياعَه تعتمدون، وإيانا تحاربون.
أجل والله خذلٌ فيكم معروف، وشَجَت عليه عروقكم، وتوارثته أصولكم وفروعكم، وثبتت عليه قلوبكم، وغشيت صدوركم، فكنتم أخبث شيء: سخى للناصب، وأكلة للغاصب، ألا لعنة الله على الناكثين، الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، وأنتم والله هم، ألا إن الدعيَّ بن الدعيِّ قد ركز بين اثنتين: بين القتلة والذلَّة، وهيهات منَّا أخذ الدنية، أبى الله ذلك ورسولُه والمؤمنون، وجدودٌ طابت، وحجور طَهُرت، وأنوفٌ حميَّة، ونفوس أبية، لا تؤثر مصارع اللئام على مصارع الكرام، ألا قد أعذرتُ وأنذرتُ، ألا إني زاحف بهذه الأسرة، على قلة العتاد، وخذلة الأصحاب، ثم أنشأ يقول:
فإن نَهزِم فهزّامون قِدْمًا ... وإن نُهزَم فغيرُ مهزّمينا
ألا ثم لا تلبثون بعدها إلا كريثما تركب الفرس حتى تدور بكم الرحى، عهدًا عهده إليَّ أبي، فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم كيدون جميعًا ولا تنظرون، إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم.
اللهم احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسنيِّ يوسف، وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسًا مرة، فلا يدع فيهم أحدًا إلا قتله بقتلة، وضربه بضربة، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم؛ فإنهم غرُّونا وكذبونا وخذلونا، وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
ثم قال: أين عمر بن سعد؟ ادعوا لي عمر. فدُعي له، وكان كارهًا لا يحب أن يأتيه، فقال: يا عمر، أنت تقتلني؟ تزعم أن يوليك الدعي ابن الدعي بلادي الرَّي وجرجان، والله لاتتهنأ بذلك أبدًا، عهدًا معهودًا، فاصنع ما أنت صانع، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، ولكأني برأسك على قصبة قد نصبت بالكوفة تتراماه الصبيان، ويتخذونه غرضًا بينهم، فاغتاظ عمر بن سعد من كلامه، ثم صرف بوجهه عنه، ونادى بأصحابه: ما تنتظرون به، احملوا بأجمعكم إنما هي أكلة واحدة.
ثم إن الحسين عليه السلام دعا بفرس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المرتجز، فركبه وعبَّأ أصحابه، وزحف إليهم عمر بن سعد لعنه الله، ونادى غلامه دريدًا: قدم رايتك، ثم وضع سهمه في كبد قوسه، ثم رمى وقال: اشهدوا لي عند الأمير - يعني عبيدالله بن زياد لعنه الله وإياهم - أني أول من رماه، فرمى أصحابه كلهم بأجمعهم في أثره رشقة واحدة، فما بقي أحد من أصحاب الحسين عليه السلام إلا أصابه من رميهم سهم، ثم قاتل عليه السلام هو وأهل بيته وأصحابه حتى قُتِلُوا كلُّهم، وفيهم بضعة عشر شابًا من أهل بيته، فقَتل الحسينَ بنَ علي عليهما السلام سنانُ بن أنس النخعي، وأجهز عليه خولي بن يزيد الأصبحي من حمير.
والعباس بن علي بن أبي طالب، وأمه: أم البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد العامري. قتله زيد بن رقاد الجنبي بسهم، ولما ظفر به الشيعة بالكوفة نصبوه غرضًا ورموه حتى لم يبق قدر الدرهم من جسده إلا وفيه سهم، وحكيم بن طفيل الطائي السِّنبسي، وكلاهما ابتلي في بدنه. وجعفر بن علي بن أبي طالب، وأمه أيضا أم البنين بنت حزام، قتله هانئ بن ثبيت الحضرمي. وعبدالله بن علي، وأمه أيضًا أم البنين رماه خولي بن يزيد الأصبحي بسهم، وأجهز عليه رجل من بني تميم بن أبان بن دارم. ومحمد بن علي بن أبي طالب الأصغر، قتله رجل من بني أبان بن دارم وليس بقاتل عبدالله بن علي، وأمه أم ولد. وأبو بكر بن علي بن أبي طالب، وأمه: ليلى بنت مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم التميمي. وعثمان بن علي، وأمه أم البنين بنت حزام أخو العباس وجعفر وعلي ابني علي لأمهم. وعلي بن الحسين الأكبر، وأمه: ليلى بنت مرة بن عروة بن مسعود بن معتب الثقفي، وأمها: ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب، قتله مرة بن منقذ بن النعمان الكندي، وكان يحمل عليهم ويقول:
أنا علي بن الحسين بن علي ... نحن وبيتِ الله أولى بالنبي
حتى قُتل صلى الله عليه.
وعبدالله بن الحسين، وأمه: الرباب بنت امرئ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عكيم الكلبي، قتله حرملة بن الكاهن الأسدي الوالبي، وُلِدَ والحسين بن علي في الحرب، فأتيَ به وهو قاعد، فأخذه في حجره ولبَّاه بريقه، وسمَّاه عبدالله، فبينا هو كذلك إذ رماه حرملة بن الكاهن بسهم فنحره، فأخذ الحسين دمه فجمعه ورمى به نحو السماء، فما وقعت منه قطرة إلى الأرض.
قال فضيل: وحدثني أبو الورد أنه سمع أبا جعفر يقول: لو وقعت منه إلى الأرض قطرة لنزل العذاب، وهو الذي يقول فيه الشاعر:
وعند غنيٍّ قطرةٌ من دمائنا ... وفي أسدٍ أخرى تُعَدُّ وتذكر
وكان علي بن الحسين عليه السلام عليلاً، وارتُثَّ يومئذ وقد حضر بعض القتال فدفع الله عنه، وأُخِذَ مع النساء هو ومحمد بن عمرو بن الحسن، والحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
وقتل أبو بكر بن الحسن بن علي، وأمه: أم ولد، قتله عبدالله بن عقبة الغنوي. وعبدالله بن الحسن بن علي، وأمه أم ولد رماه حرملة بن الكاهن الأسدي بسهم فقتله. والقاسم بن الحسن بن علي، وأمه: أم ولد قتله عمرو بن سعيد بن نفيل الأزدي. وعون بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، وأمه: جمانة بنت المسيب بن نجبة بن ربيعة بن رباح الفزاري، قتله عبدالله بن قطنة الطائي النبهاني.
ومحمد بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، وأمه: الخوصاء بنت حصفة بن ثقيف بن ربيعة بن عابد بن الحارث بن تيم الله بن ثعلبة بن بكر بن وائل، قتله عامر بن نهشل التميمي.
قال: ولما أتى أهلَ المدينة مصابُهم، دخل الناس على عبدالله بن جعفر يعزُّونه، فدخل عليه بعض مواليه فقال: هذا ما لقينا ودخل علينا من حسين! قال: فخذفه عبدالله بن جعفر بنعله! وقال: يا ابن اللخنا، أللحسين تقول هذا؟! والله لو شهدته ما فارقته حتى أُقتل معه، والله ما شُحّي بنفسي عنهما، وعزاني عن المصاب إلا أنهما أُصيبا مع أخي، وكبيري، وابن عمي، مواسين له، ومضاربين معه، ثم أقبل على جلسائه فقال: الحمد لله على كل محبوبٍ ومكروه، أعززْ علي بمصرع أبي عبدالله، ثم أعزز عليَّ أن لا أكون آسيته بنفسي، الحمد لله على كل حال قد آساه وَلَدَيَّ.
وجعفر بن عقيل بن أبي طالب، أمه: أم البنين بنت الثغر بن عامر بن هصان الكلابي، قتله عبدالله بن عروة الخثعمي. وعبدالرحمن بن عقيل بن أبي طالب، أمه: أم ولد، قتله عثمان بن خالد بن أسير الجهني، وبشير بن حوط الهمداني القايضي، اشتركا في قتله. وعبدالله بن عقيل بن أبي طالب، وأمه: أم ولد، رماه عمرو بن صبيح الصدائي فقتله. ومسلم بن عقيل بن أبي طالب قُتِلَ بالكوفة، وأمه: جبلة أم ولد. وعبدالله بن مسلم بن عقيل، وأمه: رقية بنت علي بن أبي طالب، وأمها: أم ولد، قتله عمرو بن صبيح الصدائي، ويقال: بل قتله أُسيد بن مالك الحضرمي. ومحمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب، وأمه: أم ولد، قتله أبو زهير الأزدي ولقيط بن ياسر الجهني اشتركا فيه، وقتل سليمان مولى الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، قتله سليمان بن عوف الحضرمي، وقتل مَنْجح مولى الحسن بن علي بن أبي طالب عل يهما السلام، قتله حسان بن بكر الحنظلي، وقُتل قارب الدئلي مولى الحسين بن علي عليهما السلام، وقُتل الحارث بن نبهان مولى حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وقتل عبدالله بن يقطر رضيع الحسين بن علي عليهما السلام بالكوفة، رُمي به من فوق القصر فتكسّر، فقام إليه عبدالملك بن عمير اللخمي فقتله واحتزَّ رأسه.
وقُتل من بني أسد بن خزيمة: حبيب بن مظاهر، قتله بديل بن صريم العقفاني، وكان يأخذ البيعة للحسين بن علي، وأنس بن الحارث، وكانت له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقيس بن مسهِّر الصيداوي، وسليمان بن ربيعة، ومسلم بن عوسجة السعدي من بني سعد بن ثعلبة، قتله مسلم بن عبدالله وعبيدالله بن أبي خشكارة، وقُتل من بني غفار: مسلم بن مُلَيل بن ضمرة، وعبدالله وعبدالرحمن ابنا قيس بن أبي غرزة، وجون مولى لأبي ذر الغفاري.
وقُتل من بني تميم: الحرُّ بن يزيد، وكان لحق بالحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام بعد، وشبيب بن عبدالله من بني نفيل بن دارم، وقُتل من بني سعد بن بكر: الحجاج بن بدر. وقُتل من بني تغلب: قاسط وكردوس ابنا زهير بن الحارث، وكنانة بن عتيق، والضرغامة بن مالك. وقُتل من بني قيس بن ثعلبة: خولي بن مالك، وعمرو بن ضبيعة. وقُتل من بني عبد القيس -من أهل البصرة -: يزيد بن بشيط، وابناه عبدالله وعبيدالله، وعامر بن مسلم، وسالم مولاه، وسيف بن مالك، والأدهم بن أمية.
وقُتل من الأنصار: عمرو بن قرظة، وعبدالرحمن بن عبد رب من بني سالم بن الخزرج، وكان أمير المؤمنين عليه السلام ربّاه وعلّمه القرآن، ونعيم بن العجلان الأنصاري، وعمران بن كعب الأنصاري، وسعد بن الحارث، وأخوه الحتوف بن الحارث، وكانا من المحكِّمة، فلمَّا سمعا أصوات النساء والصبيان من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حكما، ثم حملا بأسيافهما، فقاتلا مع الحسين عليه السلام حتى قُتِلا، وقد أصابا في أصحاب عمر بن سعد ثلاثة نفر. وقُتل من بني الحارث بن كعب: الضباب بن عامر. وقُتل من خثعم: عبدالله بن بشير الآكله، وسويد بن عمرو بن أبي المطاوع، قتله هانئ ابن ثبيت الحضرمي.
وقُتل بكر بن حي التيمي من بني تيم الله بن ثعلبة، وجابر ابن الحجاج مولى عامر بن نهشل من بني تيم الله، ومسعود بن الحجاج، وابنه عبدالرحمن بن مسعود.
وقتل من عَيِّذُالله: مجمع بن عبدالله، وعائذ بن مجمع. وقتل من طي عمّار بن حسان بن شريح بن سعد بن حارثة بن لام، وأمية بن سعد. وقتل من مراد: نافع بن هلال الجملي، وكان من أصحاب أمير المؤمنين صلوت الله عليه، وجنادة بن الحارث السلماني وغلامه ابن واضح الرومي. وقُتل من بني شيبان بن ثعلبة: جبلة بن علي. وقُتل من بني حنيفة: سعيد بن عبيدالله. وقُتل من جوان: جندب بن حجير بن جندب. وقُتل من صدآء: عمر بن خالد الصدآئي، وسعد مولاه. وقُتل من كلب: عبدالله بن عمرو بن عياش بن عبد قيس، وأسلم مولى لهم. وقُتل من كندة: الحارث بن امرئ القيس، ويزيد بن بدر بن المهاصر، وزاهر صاحب عمرو بن الحمق، وكان صَحِبَه حين طلبه معاوية. وقتل من قيس بجيلة: كثير بن عبدالله الشعبي، ومهاجر بن أوس، وابن عمه سلمان بن مضارب، وقُتل النعمان بن عمرو، والجلاس بن عمرو الراسبيين. وقُتل من حرقة جهينة: مجمع بن زياد، وعبّاد بن أبي المهاجر الجهني، وعقبة بن الصلت. وقُتل من الأزد: مسلم بن كثير، والقاسم بن بشر، وزهير بن سليم، ومولى لأهل شنوءة يدعى: رافعا. وقُتل من همدان: أبو ثُمامة عمر بن عبدالله الصائدي، وكان من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، قتله قيس بن عبدالله، ويزيد بن حضير المشرفي، وحنظلة بن أسعد الشبامي، وعبدالرحمن ابن عبدالله الأرحبي، وعمار بن أبي سلامة الدالاني، وعابس بن أبي شبيب الشاكري الدالاني، وهم يسمون: فتيان الصبّاح من وادعة، وشوذب مولى شاكر، كان متقدمًا في الشيعة، وسيف بن الحارث بن سريع، ومالك بن عبدالله ابن سريع، وهمام بن سلمة القانصي.
وارتُثَّ من همدان: سوار بن حمير الجابري، فمات لستة أشهر من جراحته، وعمرو بن عبدالله الجندعي مات من جراحة كانت به على رأس سنة، وقتل هانئ بن عروة المرادي بالكوفة، قتله عبيدالله بن زياد، وقتل من حضرموت: بشير بن عمرو.
وخرج الهفهاف بن المهند الراسبي من البصرة حين سمع بخروج الحسين، فسار حتى انتهى إلى العسكر بعد قتله، فدخل عسكر عمر بن سعد، ثم انتضى سيفه، وقال:
يا أيها الجند المجند ... أنا الهفهاف بن المهند
أبغي عيال محمد
ثم شدَّ فيهم.
قال علي بن الحسين: فما رأى الناس منذ بعث الله محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم فارسًا نفر بعد علي بن أبي طالب عليه السلام مثله قتل بيده ما قتل، فتداعوا عليه فأقبل خمسة فاحتوشوه حتى قتلوه رحمه الله.
وروي عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: أنه وجد في الحسين بن علي عليهما السلام: ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وأربعون ضربة، ووجد في جبة خزٍّ دكناء كانت على الحسين عليه السلام مائة خرق، وبضعة عشر خرقًا ما بين رمية وطعنة وضربة.
وعن الشعبي: وجد في ثوب الحسين عليه السلام: مائة خرق، وبضعة عشر خرقًا من الضرب والطعن والرماح والسهام.
وروي عن بعضهم أنه قال: لم يضرب أحد في الإسلام منذ كان أكثر من ضرب الحسين عليه السلام وجد به: مائة وعشرون ضربة بسيف ورمية، وخذف بحجر.
ولما فرغوا من قتله عليه السلام احتزوا رأسه، وكان الذي احتزَّه خولي بن أنس ابن يزيد، وأجروا الخيل بعد ذلك على جثته الكريمة حتى تقطعت، وقال عمر بن سعد: هكذا أمرنا عبيدالله بن زياد أن نصنع به، فانظر إلى عظيم ما أتوه، وفحش ما ارتكبوه، فقاتلهم الله أنى يؤفكون، والبهيمة تَحْرُمُ المثلَة بها عند جميع المسلمين، فكيف بسبط النبوءة وثمر الوصية، وسيد شباب أهل الجنة، سلام الله عليه وصلواته ورضوانه؟!
وأخَذَ سراويل الحسين عليه السلام يحيى بن كعب، فكانتا يداه تقطران دما إذا أشتى، وإذا أصاف يَبِسَتَا، وعادتا كأنهما عود يابس. وأخذ قطيفته قيس بن الأشعث بن قيس، وكان يقال له: قيس القطيفة. وأخذ برنسه مالك بن بشير الكندي، وكان من خَزٍّ، فأتى به أهله، فقالت امرأته بنت عبدالله بن الحارث: أسَلَبُ الحسين يدخل بيتي؟ أخرجه عني، فلم يزل محتاجًا حتى مات. وأخذ عمامته جابر بن يزيد الأودي، فاعتم بها فصار مجذوما. وأخذ درعه مالك بن بشر الكندي، فلبسه فصار معتوهًا، وارتفعت غبرةٌ شديدةٌ سوداء فظن القوم أن العذاب قد أتاهم، ثم انجلت عنهم. وأقبل شمر بن ذي الجوشن إلى الخيام، وأمر بسلب كل ما مع النساء، فأخذوا كل ما في الخيمة حتى أخذوا قرطًا في أذن أم كلثوم، وخرموا أذنها، وفرغ القوم من القسمة وضربوا فيها بالنار.
وعن ابن قتيبة: انتهب الناس ورسًا من عسكر الحسين عليه السلام يوم قتل، فما طلت به امرأة إلا برصت، وكذلك رواه سيّار.
وأرسل عمر بن سعد بالرأس مع رجل يقال له: بشر بن مالك إلى ابن زياد، فوضعه بين يديه، وهو يقول:
أوْقِرْ ركابي فضة وذهبَا ... أنا قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أمًّا وأبًا
فغضب ابن زياد فقدَّمه وضرب عنقه، وقال: إن كان كما قلت، فلم قتلته؟
ولما جيء برأس الحسين بن علي عليهما السلام إلى ابن زياد جعل يقول بقضيب في أنفه: ما رأيت مثل هذا حُسنًا، فقال أنس: أما إنه كان أشبههم برسول الله.
وروي أن ابن زياد أرسل إلى أبي برزة فجرى بينهما كلام، ثم قال عبيدالله بن زياد: كيف ترى شأني وشأن الحسين يوم القيامة؟ فقال: الله أعلم، وما علمي بذلك! قال: إنما أسألك عن رأيك، قال: إن سألتني عن رأيي فإن حسينا يشفع له محمد يوم القيامة، ويشفع لك زياد، قال: اخرج فلولا ما فعلت لك لضربت عنقك، حتى إذ بلغ باب الدار قال: ردوه، فقال: لئن لم تغد علي وتروح لأضربن عنقك.
وروي عن حاجب عبيدالله قال: دخلت القصر خلف عبيدالله بن زياد حين قتل الحسين عليه السلام، فاضطرم وجهه نارًا! فقال: هكذا بكمِّه على وجهه، فقال: هل رأيت؟ قلت: نعم. فأمرني أن أكتم.
وروى السيد أبو الحسين يحيى بن الحسين الحسيني عليهم السلام بإسناده عن خالد بن يزيد عن أم سليم خالةٍ له، قالت: لما قتل الحسين بن علي عليهما السلام مطرت السماء مطرًا كالدم على البيوت والحيطان، فبلغني أنه كان بالبصرة والكوفة والشام وخراسان حتى كنا لا نشك أنه سينزل العذاب.
وروى أيضا عن عمرو بن زياد قال: أصبحت جبّانتنا يوم قتل الحسين عليه السلام ملآنة دمًا.
وروى أيضًا بإسناده عن محمد بن سيرين قال: لم تُرَ هذه الحمرة في أفق السماء حتى قتل الحسين عليه السلام!.
وروى أيضا بإسناده عن الأسود بن قيس قال: كنت ليالي قتل الحسين بن علي عليهما السلام ابن عشرين سنة، فارتفعت حمرة من قبل المشرق، وحمرة من قبل المغرب، فكانتا تلتقيان في كبد السماء أشهرا.
ولما فرغ القوم من قتل الحسين عليه السلام وأصحابه رضي الله عنهم، ساقوا حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تساق السبايا حتى بلغوا الكوفة، وخرج الناس يبكون، وجعل علي بن الحسين وهو مريض يقول: هؤلاء يبكون من أجلنا، فمن قَتَلَنَا؟! فلما دخلوا على ابن زياد قعدت زينب ناحية، فسأل من هي؟ قيل: زينب بنت علي، فقال ابن زياد: الحمد لله الذي فضحكم، وكذَّب أحدوثتكم، فقالت زينب: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وطهرنا تطهيرًا، وإنما يفتضح الفاسق الفاجر، فقال ابن زياد: كيف رأيت صُنْعَ الله بأخيك وأهل بيتك؟ فقالت: ما رأيت إلا جميلاً، وسيجمع الله بينك وبينهم فتتخاصمون، فانظر لمن الفلج يومئذٍ هبلتك أمك يا ابن مرجانة. فغضب وهمَّ بها، فنهاه عمرو بن حريث وقال: إنها امرأة.
ثم التفت إلى علي بن الحسين فقال: من أنت؟ قال: علي بن الحسين، قال: أولم يقتل الله علي بن الحسين؟ قال ذلك أخي أكبر مني قتلتموه، وإن له منكم مطلبا يوم القيامة. قال ابن زياد: نحن لم نقتله ولكن الله قتله، فقال علي بن الحسين: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] الآية، ثم أمر لينظر هل أدرك؟ فقيل: نعم، فأمر أن تضرب عنقه، فتعلقت به زينب عمته، وقالت: يا ابن زياد، لم يبق لنا غيره، فإن كنت تقتله فاقتلنا معه، فقال علي بن الحسين: يا ابن زياد، أبِالقتل تهددني؟! أما علمت أن القتل لنا عادة، وكرامتنا الشهادة؟، ثم قال: أخرجوهم، وخرج إلى المسجد، فخطب وأبلغ في ذم آل أبي طالب، ومدح آل أبي سفيان، وكان من كلامه: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين وأشياعه، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي، فوثب عبدالله بن عفيف الأزدي، وكان من خيار الشيعة، وكانت ذهبت إحدى عينيه يوم الجمل، والأخرى يوم صفين، وكان يلزم المسجد، فقال: يا ابن مرجانة، إن الكذاب وابن الكذاب أنت وأبوك، ومن استعملك وأبوه، يا عدو الله، أتقتل أولاد النبيين، وتتكلم بمثل هذا على منابر المسلمين، تقتل الذرية الطاهرة، وتزعم أنك مسلم؟! واغوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار؟ ألا ينتقمون من اللعين ابن اللعين؟.
فغضب ابن زياد، وأمر بأخذه، فتخلصه أشراف الأزد وهرب، ورجع ابن زياد إلى منزله وبعث بجماعة حتى أخذوا عبدالله بن عفيف، وقَتَلَه.
وروى السيد أبو الحسين يحيى بن الحسين الحسيني بإسناده عن أبي جرثومة العكلي عن أبيه قال: لَمّا قُتِل الحسين بن علي عليهما السلام، سمعت مناديًا ينادي في الجبانة:
أيها القوم قاتلون حسينًا ... أبشروا بالعذاب والتنكيل
كل أهل السماء يدعو عليكم ... من نبيٍّ وملَكٍ ورسولِ
قد لعنتم على لسان ابن داوو ... د وموسى وحامل الإنجيل
وبعث ابن زياد لعنه الله بالحرم والرؤوس مع زحر بن قيس، وشمر بن ذي الجوشن إلى يزيد لعنه الله، فدخلوا عليه، وبلغوا الكتاب، فأطرق ساعة، ثم قال: لقد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما والله لو سار إلي لعفوت عنه، ولكن قبح الله ابن مرجانة، وكان عبدالرحمن بن الحكم قاعدا في مجلسه، فجعل يقول:
لهَامٌ بجنب الطف أدنى قرابة ... من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغلُ
سميةُ أمسى نسلها عدَدَ الحصى ... وبنتُ رسول الله ليس لها نسلُ
ووضع رأس الحسين عليه السلام بين يديه، فجعل ينظر إليه ويقول:
نُفَلِّقُ هامًا من أناسٍ أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
وروي أنه لما جهزهم ابن زياد إلى يزيد، فخرجوا بهم، اجتمع أهل الكوفة ونساء همدان حين خرج بهم، فجعلوا يبكون، فقال علي بن الحسين عليهما السلام: هذا أنتم تبكون! فأخبروني من قتلنا؟! فلما أتي بهم دمشق، وقدموا على يزيد لعنه الله جمع من كان بحضرته من أهل الشام، ثم دخلوا عليه فهنوه بالفتح، فقام رجل منهم أزرق أحمر، ونظر إلى وصيفة من بناتهم، فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه، فقالت زينب: لا والله ولا كرامة لك ولا له إلا أن تخرج من دين الله عز وجل، فأعادها الأزرق، فقال له يزيد: كُفّ.
ولما وضع رأس الحسين بن علي عليهما السلام، في طست جعل ينكت ثناياه بمخصرة في يده وهو يقول:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
فأهلُّوا واستهلُّوا فرحًا ... ثم قالوا: يا يزيد لا تشل
لست من شيخيَّ إن لم أنتقم ... من بني أحمد ما كان فعل
ولما رآه أبو برزة ينكت بالقضيب، قال له: ارفع قضيبك فوالله لربما رأيت فاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فيه يلثمه. ثم قامت زينب ابنة علي عليهم السلام، وأمها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين، صدق الله العظيم كذلك يقول: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [الروم: 10] أظننت يا يزيد حين أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء، وأصبحنا نساق كما تساق الأسرى، أن بنا على الله هوانا، وبك عليه كرامة؟! وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمختَ بأنفك، ونظرت في عطفك جذلان مسرورًا، حين رَأيت الدنيا مستوسقة، والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً أنسيت قول الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178].
أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإمائك، وسوقك بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبايا؟! قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههنَّ، يحدى بهن من بلد إلى بلد، يستشرفهن أهل المنازل، ويتصفح وجوهَهنَّ القريبُ والبعيدُ، والدنيُّ والشريف، وليس معهنَّ من رجالهم ولي، ولا من حماتهم حي؟! وكيف يترجى مراقبة من لفظ فوه أكباد السعداء، ونبت لحمه بدماء الشهداء؟! وكيف يُستبطى في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالسيف والسنان، والإحن والأضغان، ثم يقول غير متأثِّم ولا مستعظم:
فأهلُّوا واستهلوا فرحًا ... ثم قالوا: يا يزيد لا شلل
منتحيًا على ثنايا أبي عبدالله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأتَ القرحة، واستأصلتَ الشأفة، بإراقتك دماء ذرية آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك زعمت تناديهم، وَلَتَرِدَنَّ وشيكًا موردهم، وَلَتوَدَنَّ أنك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت. اللهم خذ بحقنا، وانتقم من ظالمنا، وأحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا، فوالله ما فريت إلا جلدك، ولا حززت إلا لحمك، وسَتَرِدُ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما تحمَّلت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من عترته في حرمته ولحمته، وليخاصمنك حيث يجمع الله شملهم، ويلم شعثهم، ويأخذ لهم بحقهم {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ ... الآية} [آل عمران: 169، 170]، وحسبك بالله حاكمًا، ومحمدٍ خصيما، وبجبريل ظهيرًا، وسيعلم من بَوَّأ لك وأمكنك من رقاب المسلمين أن بئس للظالمين بدلاً، وأنكم شرٌ مكانًا وأضعف جندًا، ولئن جرَّت عليَّ الدواهي مخاطبتك، على أني أستصغر قدرك، لكن العيون عَبْرى، والصدور حرَّى.
ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النُّجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فتلك الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفوها الذئاب، ولئن اتخذتنا مغنمًا لتجدننا وشيكا مغرمًا، حيث لا تجد إلَّا ما قدّمت يداك، وما ربك بظلام للعبيد، فإلى الله المشتكى، وعليه المعوَّل، فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تُميت وحينا، ولا تدرك أمرنا، ولا ترحض عنك عارنا، وهل رأيك إلا فَنَدٌ، وأيامك إلا عدد، وشَمْلُكَ إلا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين، والحمد لله الذي ختم لأوليائه بالسعادة والمغفرة، وأسأل الله أن يكمِّل لهم الثواب، ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فقال يزيد لعنه الله:
يا صيحة تلعن من صوائح ... ما أهون الموت على النوائح
وفي الأخبار: أنهم لما أقيموا على باب المسجد بدمشق، فإذا شيخ قال: الحمد لله الذي قتلكم وأراح البلاد من رجالكم، فقال علي بن الحسين عليه السلام: يا شيخ هل قرأت القرآن؟، قال: نعم، قال: هل تعرف هذه الآية: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] فنحن القربى يا شيخ، هل قرأت: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26] فنحن ذاك. هل قرأت: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] فنحن أهل البيت الذي خصنا بالطهارة.
قال: فبقي الشيخ ساعة ساكتًا، ثم بكى، وقال: اللهم إني أتوب إليك من بغض هؤلاء، اللهم إني أبرأ إليك من بغض عليٍّ ومحمد وآل محمد. وأُدخلوا على يزيد وبين يديه حبرٌ من اليهود، فقال- بعد ما تكلم علي بن الحسين: من هذا؟ قال: هو ابن صاحب هذا الرأس، قال: ومَن صاحب هذا الرأس؟ قال: الحسين بن علي، وأمه فاطمة بنت محمد.
قال الحبر: يا سبحان الله! فهذا ابن بنت نبيكم قتلتموه بهذه السرعة! بئس ما خلفتموه في ذريته، والله لو ترك فينا موسى بن عمران سبطًا لظننا أنا كنا نعبده، وأنتم فارقكم نبيكم بالأمس، فوثبتم على ابن بنته فقتلتموه! فأمر يزيد فأخرج وهرب، فقام وهو يقول: إن شئتم فاضربوني أو فاقتلوني، إني أجد في التوراة: أنه من قتل ذريَّة نبي لا يزال ملعونا أبدا ما بقي، فإذا مات يصليه الله نار جهنم، ثم استأذن علي بن الحسين عليهما السلام في الخطبة فأبى، فما زالوا به حتى أذن، فصعد المنبر فحمد الله، وأبكى الناس، ثم قال: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أعرفه بنفسي، أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرِّدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حج ولبى، أنا ابن من حمل على البراق في الهوى، أنا ابن من أُسري به إلى المسجد الأقصى، أنا ابن من بلغ به جبريل إلى السدرة المنتهى، أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن عليٍّ المرتضى، أنا ابن فاطمة الزهراء، فلم يزل يقول حتى ضج المسجد بالبكاء، وأمر يزيد لعنه الله فأقام المؤذن وقطع عليه، فلما قال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله، قال علي بن الحسين: شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي، فلما قال: أشهد أن محمدا رسول الله التفت إلى يزيد وقال: هذا جدي أو جدك؟!؟ فإن زعمت أنه جدك كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدي فلم قتلت عترته.
ثم جهزهم وحملهم إلى المدينة، فلما دخلوها خرجت امرأة من بنات عبدالمطلب ناشرةً شعرها، واضعة كمها على رأسها فتلقتهم وهي تقول:
ماذا تقولون إن قال النبي لكم: ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي؟ بعد مفتقدي ... منهم أُسارى وقتلى ضُرِّجوا بدم
ما كان هذا جزائي إن نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي
وروينا في الأخبار بالإسناد الصحيح: أنه لما أُخذ رأس الحسين بن علي عليهما السلام، ورؤوس أهل بيته وأصحابه رحمهم الله أقبلت الخيل شماطيط معها الرؤوس، وأقبل رجل من أنضر الناس لونًا، وأحسنهم وجها على فرس أدهم، قد علَّق في لباب فرسه رأس غلام أمرد، كأن وجهه قمر ليلة البدر، فإذا هو قد أطال الخيط الذي فيه الرأس، والفرس تمرح، فإذا رفع رأسه لحق الرأس بحرانه، فإذا طأطأ رأسه صكَّ الرأس الأرض، فسألت فقيل: هذا حرملة بن كاهل الأسدي لعنه الله، وهذا رأس العباس بن علي عليه ما السلام، فمكث بعد ذلك ما شاء الله، ثم رأيت حرملة ووجهه أسودُ كأنما أدخل النار ثم أخرج، فقلت له: يا عماه، لقد رأيتك في اليوم الذي جئت فيه برأس العباس وإنك لأنضر العرب وجهًا! فقال: يا ابن أخي، ورأيتني؟ قلت: نعم، قال: فإني والله منذ جئت بذلك الرأس ما من ليلة آوي فيها إلى فراشي إلا وملكان يأتيان فيأخذان بضبعي ثم ينتهيان بي إلى نار تأجج فيدفعاني فيها وأنا أنكص عنها فتسفعني كما ترى.
قال: وكانت عنده امرأة من بني تميم، فسألتها عن ذلك، فقالت: أما إذا أفشى على نفسه فلا يبعد الله غيره، والله ما يوقظني إلا صياحه كأنه مجنون.
ولما قامت الشيعة بطلب ثأر الحسين عليه السلام مع المختار بن أبي عبيد وأوعبت في قتل من حضر الوقعة، وكان في جملتهم عمرو بن الحجاج الزبيدي، فهرب خوفًا على نفسه، فلما توسط البادية ابتلعته الأرض هو وراحلته.
وروينا عن قرة قال: سمعت أبا رجاء يقول: لا تسبوا عليًّا ولا أهل هذا البيت؛ إن جارًا لنا من بني الهجيم قدم من الكوفة، فقال: ألم تروا إلى هذا الفاسق ابن الفاسق، إن الله قد قتله -يعني الحسين بن علي عليهما السلام، فرماه الله بكوكبين في عينيه فطمس الله بصره.
وعن الزهري قال: لما قُتل الحسين بن علي عليهما السلام لم يرفع حجر إلا وجد تحته دم عبيط.
وروينا عن قطنة بن العكي قال: كنَّا في قرية قريبًا من قبر الحسين بن علي عليهما السلام، فقلنا ما بقي ممن أعان على قتل الحسين أحدٌ إلا قد أصابته بلية، فقال رجل: أنا والله ممن أعان على قتله ما أصابني شيء، فسوى السراج فأخذت النار في إصبعه فأدخلها في فيه وخرج هاربًا إلى الفرات فطرح نفسه، فجعل يرتمس والنار فوق رأسه فإذا خرج أخذته النار حتى مات.
وروينا بالإسناد عن ابن المغازلي الشافعي يرفعه بإسناده عن أبي النضر الحضرمي، قال: رأيت رجلاً سمج العمى، فسألته عن سبب ذهاب بصره؟ فقال: كنت فيمن حضر عسكر عمر بن سعد، فلما جاء الليل رقدت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام وبين يديه طست فيها دم، وريشة في الدم، وهو يُؤتى بأصحاب عمر بن سعد فيأخذ الريشة فيخط بها أعينهم، وأُتي بي، فقلت: يا رسول الله: والله ما ضربت بسيف، ولا طعنت برمح، ولا رميت بسهم.
فقال: أفلم تُكثر عدونا؟
فأدخل إصبعيه في الدم: السبابة والوسطى وأهوى بها إلى عيني، فأصبحت وقد ذهب بصري.
وكان قتل الحسين بن علي عليهما السلام في يوم عاشوراء وهو يوم الجمعة من المحرم سنة إحدى وستين، وهو ابن ست وخمسين، وكانت مدة ظهوره وانتصابه للأمر إلى قتله عليه السلام شهرًا واحدًا ويومين، ودفن جسده في كربلاء، ورأسه في الشام، وعليهما مشهدان مزوران.
وترك بنوا أمية رأسه عليه السلام في خزائنهم، فأقام فيها إلى أيام سليمان بن عبدالملك، فأمر بإخراجه وتكفينه وتعظيمه، فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه يبره ويلاطفه، فسأل الحسن ((يعني البصري)) فقال: لعلك فعلت إلى أهله معروفا، فأخبره بما كان منه.
وروينا عن عطية العوفي قال: خرجت مع جابر بن عبدالله الأنصاري، زائري قبر الحسين عليه السلام، فلما وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل، ثم ائتزر بإزار، ثم ارتدى بآخر، ثم فتح صرّة فيها سُعْد فنثره على بدنه، ثم لم يخط خطوة إلا ذكر الله تعالى حتى دنا من القبر، قال: أَلْمِسْنِيه فألمسته فخرَّ مغشيًا على القبر، فرششت عليه شيئًا من الماء، فلما أفاق قال: يا حسين، يا حسين، يا حسين، ثلاثا، ثم قال: حبيبٌ لا يجيب حبيبه، ثم قال: أنى لك بالجواب؟ وقد شَخَبت أوداجك على أشباحك، وفُرِّق بين بدنك ورأسك، فأشهد أنك ابن خير النبيين، وابن سيد الوصيين، وابن حليف التقوى، وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيد النقباء، وابن فاطمة سيدة النساء، وما بالك ألا تكون هكذا؟ وقد غذّتك كف محمد سيد النبيين، ورُبيت في حجور المتقين، وأُرضعت من ثدي الإيمان، وفُطمت بالإسلام، فطبت حيَّا وطبت ميتًا، غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة لفراقك، ولا شاكّة في الخير لك، فعليك سلام الله ورضوانه، فأشهد أنك مضيت على ما مضى عليه يحيى بن زكريا.
قال عطية: ثم جال ببصره حول القبر، ثم قال: السلام عليكم أيتها الأرواح الطيبة التي بفناء الحسين عليه السلام، وأناخت برحله، أشهد أنكم أقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر، وعبدتم الله حق عبادته حتى أتاكم اليقين.
والذي بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالحق لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه، قال عطية: فقلت لجابر بن عبدالله: وكيف ولم تهبط واديا، ولم تعل جبلا، ولم تضرب بسيف؟ والقوم قد فُرق بين رؤوسهم وأبدانهم، فأوتمت الأولاد، وأرملت الأزواج، فقال لي: يا عطية، سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من أحبَّ قومًا حُشر معهم، ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم)) أحدرني نحو أبيات كوفان، قال: فلما صرنا في بعض الطريق، قال لي يا عطية: هل أوصيك وما أظنني بعد هذه السفرة ألاقيك؟ أحبب محب آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما أحبهم، وابغض مبغض آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما أبغضهم، وإن كان صوامًا قوامًا.
وروينا عن هشام بن محمد قال: لما أُجري الماء على قبر الحسين بن علي عليهما السلام، نضب بعد الأربعين يومًا وامتحى أثر القبر، جاء أعرابي من بني أسد فجعل يأخذ قبضة قبضة ويشمه حتى وقع على قبر الحسين عليه السلام فشمه وبكى، وقال: بأبي وأمي ما كان أطيَبك وأطيب تربتك ميتًا! ثم أنشأ وجعل يقول:
أرادوا ليخفوا قبره عن عداوة ... فطيبُ تراب القبر دلَّ على القبر
وكان إجراء الماء على قبر الحسين بن علي عليهما السلام أوَّلاً في أيام بني أمية، ثم أجْرى الماء عليه المتوكل العباسي، وكان السبب في ذلك على ما رواه أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبين: أنه بعث إلى مغنِّية فعُرِّف أنها غائبة، وكانت قد زارت قبر الحسين عليه السلام، وبلغها خبره، فأسرعت الرجوع وبعثت إليه بجارية من جواريها كان يألفها، فقال لها: أين كنتم؟ قالت: حجّت مولاتي وأخرجتنا معها وكان ذلك في شعبان فقال: إلى أين حججتم في شعبان؟ فقالت: إلى قبر الحسين عليه السلام، فاستُطير غضبًا، وأمر بمولاتها فحبست واصطفى أملاكها، وبعث برجل من أصحابه كان يهوديًا يقال له: الديزج، فأسلمه إلى قبر الحسين فأمر بكرب قبره ومحوه وإخراب كل ما حوله فمضى لذلك وهدم البناء وكرب حوله نحوًا من مائتي جريب، فلما بلغ القبر لم يتقدم إليه، فأحضر قومًا من اليهود فكربوه، وأجروا الماء حوله، ووكل به مسالح بين كل مسلحتين ميل، لا يزوره زائر إلا أُخذ، ووجه به إليه.
قال الشيخ أبو الفرج: فحدثني محمد بن الحسين الأشناني، قال: بَعُدَ عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفًا، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها، فساعدني رجل من العطّارين على ذلك، فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل، حتى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل فصرنا بين مسلحتين وقد ناموا حتى أتينا القبر فخفي علينا، فجعلنا نشمه ونتحرى جهته، حتى أتينا وقد قلع الصندوق الذي كان حوليه وأحرق، وأجرى عليه الماء فانخسف موضع اللبن فصار كالخندق، فزرناه وأكببنا عليه، فشممت منه رائحة ما شممت مثلها لشيء من الطيب، فقلت للعطار الذي كان معي: أي رائحة هذه؟ فقال: والله ما شممت مثلها قط من الطيب، فودعناه، وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع، فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا إلى القبر، فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه.
ثم لما قام الداعي إلى الله محمد بن زيد الحسني عليه السلام أمر بعمارة المشهدين: مشهد أمير المؤمنين عليه السلام ومشهد الحسين عليهما السلام، وقيل: إنه أنفق في عمارتهما، عشرين ألف درهم، وبلغ عضد الدولة الغاية في تعظيمهما وعمارتهما والأوقاف عليهما، وكان يزور كل سنة. ولقد عيَّرَ بني العباس، ونعى عليهم قبيح أفعالهم في تخريب قبر الحسين بن علي عليهما السلام مولاهم أبو الحسين علي بن العباس الرومي حيث يقول:
فلم يقنعوا حتى استثارت قبورهم ... كلابهم منها بهيم وديزج
وهي قصيدة طويلة يذكر فيها فضل أهل البيت ومثالب بني العباس، ونحن نذكرها كاملة إنشاء الله تعالى في آخر هذا الكتاب. ولسليمان بن قتة يرثي الحسين ابن علي عليهما السلام:
فإنَّ قتيل الطف من آل هاشم ... أذلَّ رقابًا من قريش فذلَّت
فإن تتبعوه عائذ البيت تصبحوا ... كعاد تعمّت عن هداها فضلّت
مررت على أبيات آل محمد ... فألفيتها أمثالها حيث حلّت
وكانوا لنا غنمًا فأمسوا رزيةً ... لقد عظمت تلك الرزايا وجلّت
فلا يبعد الله الديار وأهلها ... وإن أصبحت منهم برغمي تخلّت
إذا افتقرت قيس جبرنا فقيرها ... وتقتلنا قيسٌ إذا النعل زلّت
وعند غني قطرةٌ من دمائنا ... سنجزيهم يومًا بها حيث حلّت
ألم تر أن الأرض أضحت مريضة ... لفقد حسين والبلادُ اقشعرت
ولأبي الأسود الدؤلي:
أقول وزادني جزعًا وغيظًا ... أزال الله مُلك بني زياد
وأبعدهم كما غدروا وخانوا ... كما بَعُدت ثمود وقوم عاد
ولا رجعت ركابُهم إليهم ... إذا قفّت إلى يوم التناد
وأنشد عوف بن عبدالله بن الأحمر قصيدة طويلة يحرض فيها الشيعة على القيام على قتلة الحسين بن علي عليهما السلام ويرثيه فيها، أولها:
صحوت وودّعت الصبا والغوانيا ... وقلت لأصحابي: أجيبوا المناديا
وقولوا له إذ قام يدعو إلى الهدى ... وقتل العدا: لبيك لبيك داعيا
وقودوا إلى الأعداء كل طِمِرَّةٍ ... عيوفٍ وقودوا السابحات المذاكيا
وسيروا إلى القوم المخلين ... حَسبةً وهزّوا الحراب نحوهم والعواليا
ألسنا بأصحاب الخريبة والأولى ... قتلنا بها التيمي حران باغيا
ونحن سمونا لابن هند بجحفل ... كركن دبا ترجى إليه الدواهيا
فلما التقينا بيّن الضربُ أيُّنَا ... بصفين كان الأضرع المتفاديا
دلفنا فأفلينا صدورهم بها ... غداة إذٍ زرقًا ظمآءً صواديا
وملنا رجالا بالسيوف عليهم ... نشق بها هاماتهم والتراقيا
فذدناهم من كل وجه وجانب ... وحزناهم حوز الرّعا المتاليا
زويناهم حتى أزلنا صفوفهم ... فلم نر إلا مستخفّا وكابيا
وحتى ظللت ما أرى من معقل ... وأصبحت القتلى جميعا ورائيا
وحتى أعاذوا بالمصاحف واتقوا ... بها وقعات يختطفن المحاميا
فدع ذكر ذا لا تيأسن من ثوابه عانيا ... وتب واعْن للرحمن إن كنت
ألا وانع خير الناس جدًا ووالدًا ... حسينًا لأهل الدين إن كنت ناعيا
لِيَبْكِ حسينًا كل ما ذرَّ شارق ... وعند غسوق الليل من كان باكيا
لِيَبْكِ حسينًا من رعى الدين والتقى ... وكان لتضعيف المثوبة راجيا
لِيَبكِ حسينًا كل غان ويائسٍ ... وأرملة لم تعدم الدهر لا حيا
لِيَبْكِ حسينًا مملق ذو خصاصةٍ ... عديم وأيتام تشكى المواليا
لحا الله قوما أشخصوه وغرروا ... فلم ير يوم البأس منهم محاميا
ولا موفيًا بالوعد إذ حمّس الوغى ... ولا زاجرًا عنه المضلين ناهيا
ولا قائلاً لا تقتلوه فتسحتوا ... ومن يقتل الزاكين يلقى المخازيا
فلم يك إلا ناكثًا أو مقاتلاً ... وذا فجرة يسعى عليه معاديا
سوى عصبة لم يعظم القتل عندهم ... يُشَبِّهُهَا الرآؤن أُسدًا ضواريا
وَقَوْهُ بأيديهم وحرِّ وجوههم ... وباعوا الذي يفنى بما كان باقيا
وأضحى حسين للرماح درية ... فغُودر مسلوبًا لدى الطف ثاويا
قتيلاً كأن لم يغن بالناس ليلة ... جزى الله قومًا أسلموه الجوازيا
فيا ليتني إذ ذاك كنت شهدته ... فضاربت عنه الشانئين الأعاديا
ودافعت عنه ما استطعت مجاهدًا ... وأعملت سيفي فيهم وسِنانيا
ولكن قعدت في معاشر ثُبِّطُوا ... وكان قعودي ضلة من ضلاليا
فما تنسني الأيام من نكباتها ... فإني لن ألفى له الدهر ناسيا
ويا ليتني غودرت فيمن أجابه ... وكنت له من مفظع القتل فاديا
ويا ليتني أخطرت عنه بأسرتي ... وأهلي وخلاني جميعًا وماليا
سقى الله قبرًا ضمِّن المجد والتقى ... بغربيَّة الطف الغمام الغواديا
فتى حين سيم الخسف لم يقبل التي ... تذل العزيز أو تجرُّ المخازيا
ولكن مضى لم يملأ الموت نحره ... فبورك مهديًا شهيدا وهاديا
ولو أن صدِّيقًا تزيل وفاته ... حصون البلاد والجبال الرواسيا
لزالت جبال الأرض من عظم فقده . وأضحى له الحصن المجصص خاويا
وقد كسفت شمس الضحى لمصابه ... وأضحت له الأفاق حمرًا بواديا
فيا أمةً تاهت وضلَّت عن الهدى ... أنيبوا فأرضُوا الواحد المتعاليا
وتوبوا إلى التوّاب من سوء صنعكم ... وإلا تتوبوا تلقوا الله عاتيا
وكونوا شراة بالسيوف وبالقنا ... تفوزوا وقدمًا فاز من كان شاريا
وفتيان صدق دون آل نبيهم ... أُصيبوا وهم كانوا الولاة الأدانيا
وإخواننا الأولى إذا الليل جنَّهم ... تلوا طُوَلَ الفرقان ثم المثانيا
أصابهم أهل الشناءة والعدى ... فحتى متى لا نبعث الجيش غازيا
وحتى متى لا أعتلي بمهنّد ... قذال ابن وقّاص وأدرك ثأريا
وإني زعيم إن تراخت منيتي ... بيوم لهم منَّا يُشيب النواصيا
وذلك أيام التوابين من الشيعة على خذلان الحسين، وهم عشرة آلاف رجل تقدموا من البصرة والكوفة والمدائن حتى لقوا جنود بني أمية، وقتلوا منهم ألوفا كثيرة، وقُتِلوا رحمهم الله بعين الوردة.
وجميع من أحصي من القتلى بسبب الحسين بن علي عليهما السلام في الأيام المروانية إلى سبعين ألفًا مع التوابين والمختار وابن الأشعث.
وروى السيد أبو الحسين يحيى بن الحسن العقيقي الحسيني رحمة الله عليه بإسناده عن ابن عباس قال: ((أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيما أوحى إليه إني قتلت بدم يحيى بن زكريا سبعين ألفا، وأني أقتل بدم الحسين بن بنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا)).
وروى بإسناده أيضا عن بعضهم: أنه سمع جنيَّة تنوح على الحسين عليه السلام وهي تقول:
أبكي ابن فاطمة الذي ... من موته شاب الشعر
ولِقَتْله زلزلتم ... ولقتله كسف القمر
وكان أهل المدينة يسمعون نوح الجن على الحسين بن علي عليهما السلام حين أصيب، وجنية تقول:
ألا يا عين فاحتفلي بجهدي ... ومن يبكي على الشهدآء بعدي
على رهط تقودهم المنايا ... إلى متجبر في مُلك عبد
وكان من نوحهم عليه عليه السلام:
مسح الرسول جبينه ... فله بَرِيقٌ في الخدود
أبواه من عليا قريش ... جَدُّه خير الجدود
زحفوا إليه بجمعهم ... وأولئكم شرُّ الجنود
قتلوا تقيًّا زاكيا ... لا أُسكنوا دار الخلود
ومن ذلك قول بعضهم:
ستبكيك نساء الجنْـ ... ــنِ يبكين شجيات
ويخمشن وجوها كالدْ ... ــدَنانير نقيات
ويلبسن ثياب السو ... د من بعد العصيبات
وللكميت بن زيد من قصيدة، ذكر فيها الحسين عليه السلام فقال:
ومن أعظم الأحداث كانت مصيبة ... علينا قتيل الأدعياء الملحّب
قتيلٌ بجنب الطف من آل هاشم ... فيا لك لحمٌ ليس عنه مُذبِّبُ
ومنعفر الخدين من آل هاشم ... ألا حبّذا ذاك الجبين المترّبُ
صريعٌ كأن الوُلَّه النُّكْدَ حوله ... يُطفْن به شُمَّ العرانين رَبْرَبُ
وله من أخرى وذكر فيها الحسين بن علي عليهما السلام وأهله فقال:
وشجو لنفسيَ لم أنسه ... بمعركة الطف فالمجنب
كأن خدودهم الواضحا ... ت بين المجرِّ إلى المسحب
صفائح بيض جلتها القيو ... ن مما تخيرن من يثرب
وله قصائد الهاشميات خمسمائة وبضعة وسبعون بيتًا يذكر فيها الحسين عليه السلام، وقتله، ولم يجسر أحد من شعراء الشيعة يرثيه خيفة من بني أمية إلا الكميت، وأبو ذهيل وهب الجمحي، وكثيِّر بن كثير السهمي، ولأبي طالب محمد بن عبدالله الجعفري:
لي نفس تحب في الله واللـ ... ــه حسينًا ولا تحبُّ يزيدا
يا ابن أكّالة الكبود لقد انـ ... ـضجت من لابسي الكساء الكبودا
أي هول ركبت عذَّبَكَ الرحـ ... ـــمن في ناره عذابًا شديدًا
لهف نفسي على يزيد وأشيا ... ع يزيد ضلوا ضلالاً بعيدا
أبا عبدالله يا بن رسول الـ ... ـله يا أكرم البرية عودا
ليتني كنت يوم كنت فأمسي ... فيك في كربلا قتيلاً شهيدا
ولمنصور بن سلمة بن الزبرقان النمري:
شاء من الناس راتع هامل ... يعللون الناس بالباطل
تقتل ذريّة النبي ويرجو ... ن دخول الجنان للقاتل
ويلك يا قاتل الحسين لقد بؤ ... ت بحمل يميل بالحامل
أيُّ حِباء حبوت أحمد فى ... حفرته من حرارة الثاكل
بأي وجه تلقى النبي وقد ... دخلت في قتله مع القاتل
تعال فاطلب غدًا شفاعته ... أولا فَرِدْ حوضه مع الناهل
ما الشك عندي في حال قاتله ... ولا أراني أشك في الخاذل
نفسي فداء الحسين حين غدا ... إلى المنايا غُدوّ لا قافل
ذلك يوم أنحى بشفرته ... على سنام الإسلام والكاهل
يا عاذلي إنني أحب بني أحـ ... ـمد فالترب في فم العاذل
كم ميت منهمو بغصته ... مغترب القبر بالعرا نازل
ما انتحبت حوله قرابته ... عند مقاساة يومه الباسل
اذكر مَنْهُمْ ومَنْ أصَابَهُمُ ... فيمنع الصلبُ سلوة الذاهل
مظلومة والنبي والدها ... تدير أرجاء مقلة حافل
ألا مصاليت يغضبون لها ... بسلة البيض والقنا الذابل
قد ذقتُ ما أنتم عليه فما ... رجعتُ من دينكم إلى طائل
من دينكم جفوة النبي وما الـ ... جافي لآل النبي كالواصل
وقال الشريف الرضي محمد بن الحسين الحسيني عليه السلام:
ولقد حبست على الديار عصابة ... مضمومة الأيدي إلى أكبادها
حسرى تجاذب بالبكاء عيونها ... وتعط بالزفرات من أبرادها
وقفوا بها حتى كأن مطيهم ... كانت قوائمهن من أوتادها
هل تطلبون من النواظر بعدكم ... شيئًا سوى عبراتها وسهادها
شَغَلَ العيونَ عن البكاء بكاؤنا ... لبكاء فاطمة على أولادها
أترى درت أن الحسين طريدة ... لقنا بني الطرداء عند ولادها
كانت مآتم بالعراق تعدُّها ... أمويةٌ بالشام من أعيادها
ما راقبت غضب النبي وقد غدا ... زرع النبي مظنّة لحصادها
جعلت رسول الله من خصمائها ... فلبئس ما ذخرت ليوم معادها
نسل النبي على صعاب مطيها ... ودم النبي على رؤوس صعادها
وا لهفتاه لعصبة علويّةٍ ... تبعت أمية بعد عز قيادها
جعلت عران الذل في آنافها ... وعلاط وَسْمِ الضيم في أجيادها
استأثرت بالأمر من غيّابها ... وقضت بما شاءت على شُهادها
طلبت تراث الجاهلية عندها ... وشفت قديم الغِل من أحقادها
زعمت بأن الدين سوّغ قتلها ... أوليس هذا الدين عن أجدادها
الله سابقكم إلى أرواحها ... وكسبتم الآثام في أجسادها
أخَذَتْ بأطراف الفخار فعاذرٌ ... أن يصبح الثقلان من حُسادها
تروي مناقب فضلها أعداؤُها ... أبدًا وتسنده إلى أضدادها
قف بي ولو لوْثُ الإزار وإنما ... هي مهجة عَلِقَ الهوى بفؤادها
القفر من أوراقها والطير من ... طُرّاقها والوحش من عُوّادها
يا عترة الله اغضبي لنبيه ... وتزحزحي بالبيض عن أغمادها
بالطف حيث غدا مُرَاق دمائها ... ومناخ أينقها ليوم جلادها
هذا المقال وما بلغت وإنما ... هي حَلْبَةٌ خلعوا عذار جوادها
أأقول جادكم الربيع وأنتمُ ... في كل منزلة ربيع بلادها
أغنى ضياء الشمس عن أوصافها ... بضيائها وحلالها وبعادها
ذِكْرُ نُكَتٍ مِنْ كَلامِهِ وَسِيْرَتِهِ عليه السلام
خرج عليه السلام من المدينة حين ورد نعي معاوية، وطلب بالبيعة ليزيد، وامتنع من ذلك يوم الأحد لليلتين بقيتا من رجب سنة ستين إلى مكة، ودخلها ليلة الجمعة لثلاث خلون من شعبان، ووردت عليه كتب أهل الكوفة كتاب بعد كتاب - وهو بمكة - بالبيعة في ذي الحجة من هذه السنة، ولما وافته بيعة أهل الكوفة خرج من مكة سائرا إليها لثمان خلون من ذي الحجة.
وروي أنه لما أراد الخروج إلى العراق خطب أصحابه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن هذه الدنيا قد تنكرت وأدبر معروفها، فلم يبق إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيشٍ كالمرعى، ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يُنهى عنه، لِيَرْغَب المرؤ في لقاء ربه، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا شقاوة.
فقام إليه زهير بن القين العجلي فقال: قد سمعت مقالتك هديت، ولو كانت الدنيا باقيةً وكنا فيها مخلّدين، وكان في الخروج مواساتك ونصرتك، لاخترنا الخروج منها معك على الإقامة فيها، فجزاه الحسين بن علي عليهما السلام خيرًا ثم قال:
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى ... إذا ما نوى حقًّا وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بنفسه ... وفارق مثبورًا، وحارب مجرما
فإن عشت لم أندم، وإن مت لم أُلمْ ... كفى بك داءً أن تعيش وترغما
فلما نزل بستان بني عامر كتب إلى محمد أخيه وأهل بيته: من الحسين بن علي إلى محمد بن علي وأهل بيته أما بعد:
فإنكم إن لحقتم بي استشهدتم، وإن تخلفتم عني لم تلحقوا النصر، والسلام.
فلما وافى زُبالة استقبله الطرماح الطائي الشاعر، فقال له الحسين عليه السلام: من أين خرجت؟ قال: من الكوفة، قال: كيف وجدت أهل الكوفة؟ قال: يا ابن رسول الله قلوبهم معك، وسيوفهم عليك.
فقال له الحسين عليه السلام: صدقت، الناس عبيد الدنيا، والدِّينُ لغوٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درَّت معائشهم فإذا امتُحنوا بالبلاء قلَّ الديّانون.
فلما وافى كربلاء قال: في أي موضع نحن؟ قالوا: بكربلاء، قال: كربٌ والله وبلاء، هاهنا مناخ ركابنا، ومهراق دمائنا، ثم أقبل في جوف الليل يتمثل ويقول:
يا دهر أُفٍّ لك من خليل ... كم لك بالإشراق والأصيلِ
من ميّتٍ وصاحبٍ قتيلِ ... والدهر لا يقنع بالبديل
وكل حيٍّ سالكُ السبيل
فقالت له أخته زينب: لعلك تخبرنا بأنك تغصب نفسك؟ فقال عليه السلام: لو ترك القطا لنام.
وفي بعض أخباره عليه السلام أنه لما بلغ بستان بني عامر لقي الفرزدق بن غالب - الشاعر، فقال: أين تريد يا ابن رسول الله؟ ما أعجلك عن الموسم؟ وذلك يوم التروية، فقال: لو لم أعجل لأخِذْتُ أخذًا، فأخبرني يا فرزدق الخبر؟ قال: تركت الناس قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية، قال: صدَقني الخبر ..
ثم مرّ الحسين عليه السلام حتى إذا كان مكانه الذي كان فيه من بستان بني عامر بمرحلة أو مرحلتين لقي عبدالله بن مطيع العدوي، فقال له: أين تريد يا ابن رسول الله؟ قال: أريد الكوفة فإن أهلها كتبوا إليَّ، قال: فإني أنشدك يا ابن رسول الله بالبيت الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام أن تعرض نفسك لبني مروان؛ فوالله لئن عرّضت نفسك لهم ليقتلنك، قال: فمضى على وجهه عليه السلام.
وروينا عن زيد بن علي عن أبيه عليهم السلام: أن الحسين بن علي عليهما السلام خطب أصحابه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، خُطَّ الموت على بني آدم كخط القلادة على جيد الفتاة، ما أولعني بالشوق إلى أسلافي اشتياق يعقوب عليه السلام إلى يوسف عليه السلام وأخيه، وإنّ لي مصرعًا أنا لاقيه كأني أنظر إلى أوصالي تقطعها وحوش الفلوات غبرًا وعفرًا، قد ملأت مني أكراشها، رِضَى اللهِ رضانا أهلَ البيت نصبر على بلائه؛ ليوفينا أجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حُرْمَتُهُ وعترتُه، ولن تفارقه أعضاؤه وهي مجموعة في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه، وتنجز لهم عدته، من كان فينا باذلا مهجته فليرحل فإني راحلٌ غدًا إن شاء الله تعالى، ثم نهض إلى عدوه.
وقد كان عليه السلام لما أتته رسل أهل الكوفة، وقالوا: قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي، فاقدم إلينا، فبعث عليه السلام إلى مسلم بن عقيل ابن عمه فقال له: سر إلى الكوفة فانظر ما كتبوا به إليَّ فإن كان حقًّا خرجت إليهم، فخرج مسلم حتى أتى المدينة، فأخذ منها دليلين فمرّا به في البريّة فأصابهم عطش فمات أحد الدليلين، فكتب مسلم إلى الحسين عليه السلام يستعفيه، فكتب إليه الحسين عليه السلام أن امض إلى الكوفة، فخرج حتى قدمها، فنزل على رجل من أهلها يقال له عوسجة، فلما تحدث أهل الكوفة بمقدمه دنوا إليه، فبايعه منهم اثنا عشر ألفا، فقام رجل ممن يهوى يزيد إلى النعمان، فقال له: إنك لضعيف أو متضعف قد فسد البلاد، فقال النعمان: أكون ضعيفًا في طاعة الله عز وجل أحبَّ إليّ من أن أكون قو يًّا في معصية الله، وما كنت لأهتك سترًا ستره الله عز وجل، فكتب بقوله إلى يزيد بن معاوية، فدعى يزيد مولى له يقال له: سرجون، قد كان يستشيره فأخبره الخبر، فقال له: أكنتَ قابلاً من معاوية لو كان حيا قال: نعم، قال: فاقْبَلْ مني إنه ليس للكوفة إلا عبيدالله بن زياد فولها إياه، وكان يزيد عليه ساخطًا، وقد كان همَّ بعزله، وكان على البصرة فكتب إليه برضاه وأنه قد ولاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إن وجده، فأقبل عبيدالله في وجوه أهل البصرة حتى قدم الكوفة متلثمًا، فلا يمر على مجلس من مجالسهم فيسلم عليهم إلا وقالوا: وعليك السلام يا ابن بنت رسول الله، وهم يظنون أنه الحسين بن علي عليهما السلام حتى نزل بالقصر، فدعى مولىً له فأعطاه ثلاثة آلاف درهم، فقال له: اذهب حتى تسأل عن الرجل الذي يبايع أهل الكوفة فأعلمه أنك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر، وهذا مال فادفعه إليه ليقوى به، فخرج الرجل فلم يزل يتلطف ويرفق حتى دُلَّ على شيخ يلي البيعة، فلقيه فأخبره الخبر، فقال له الشيخ: لقد سرَّني لقاؤك إياي،
ولقد سآءني: فأما ما سرّني من ذلك فما هداك الله عز وجل له، وأما ما سآءني فإن أمرنا لم يستحكم بعد، فأدخله على مسلم فأخذ منه المال وبايعه، ورجع إلى عبيدالله فأخبره، وتحول مسلم بن عقيل حين قدم عبيدالله من الدار التي كان فيها إلى منزل هانئ بن عروة المرادي.
وكتب مسلم بن عقيل إلى الحسين عليه السلام يخبره ببيعة اثني عشر ألفًا من أهل الكوفة ويأمره بالقدوم، قال: وقال عبيدالله لوجوه أهل الكوفة: ما بال هانئ بن عروة لم يأتني فيمن أتاني؟! قال: فخرج إليه محمد بن الأشعث، وأناس منهم، فأتوه وهو على باب داره، فقال له: إن الأمير قد استبطأك فانطلق إليه، فلم يزالوا به حتى ركب معهم فدخلوا به على عبيدالله، وعنده شريح القاضي، فلما نظر إليه قال لشريح: أتتك بحائن رجلاه، فلما سلم عليه قال له: يا هانئ، أين مسلم؟ قال: ما أدري، فأمر عبيدالله صاحب الدراهم فخرج إليه، فلما رآه قطع به، قال: أصلح الله الأمير، والله ما دعوته إلى منزلي، ولكنه جاء فطرح نفسه علي، قال: ائتني به، قال: والله لو كان تحت قدميّ ما رفعتهما عنه، قال: أدنوه إليَّ، فأدنوه فضربه بالقضيب فشجه على حاجبه، وأهوى هانئ إلى سيف شرطي ليستلَّه فدُفع عن ذلك، وقال له: قد أحلَّ الله دمك، وأمر به فحُبس في جانب القصر، وخرج الخبر إلى مدحج فإذا على باب القصر جَلَبةٌ سمعها عبيدالله بن زياد، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مدحج، فقال لشريح: اخرج إليهم فأعلمهم أني إنما حبسته لأسائله، وبعث عينا إليه من مواليه يسمع ما يقول: فمر شريح بهانئ، فقال هانئ: يا شريح اتق الله فإنه قاتلي، فخرج شريح حتى قام على باب القصر فقال: لا بأس عليه، إنما حبسه الأمير ليسائله، فقالوا: صدق ليس على صاحبكم بأس، فتفرّقوا، وأتى مسلم الخبر فنادى بشعاره، فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة، فقدّم مقدمه، وهيَّأ ميمنة وميسرة، وسار في القلب إلى عبيدالله، وبعث عبيدالله إلى وجوه أهل الكوفة فجمعهم عنده في القصر، فلما سار إليه مسلم، فانتهى إلى باب القصر أشرفوا من فوقه على عشائرهم، فجعلوا يكلمونهم ويردونهم، فجعل أصحاب مسلم يتسللون حتى أمسى في خمسمائة، فلما اختلط الظلام ذهب أولئك أيضًا، فلما رأى مسلم أنه قد بقي وحده تردّد في الطرق، فأتى بابا فنزل عليه، فخرجت إليه امرأة، فقال لها: اسقيني ماء؛ فسقته ثم دخلت فمكثت ما شاء الله ثم خرجت فإذا هو على الباب، قالت: يا عبدالله إن مجلسك مجلس ريبة فقم، فقال: أنا مسلم بن عقيل فهل عندك مأوى؟ قالت: نعم ادخل، وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث، فلما علم به الغلام انطلق فأخبره، فانطلق محمد إلى عبيد الله فأخبره، فبعث عبيدالله عمرو بن حريث المخزومي صاحب شرطته إليه ومعه محمد، فلم يعلم مسلم حتى أحيط بالدار، فلما رأى ذلك مسلم خرج إليهم بسيفه فقاتلهم فأعطاه محمد الأمان فأمكن من يده، فجاء به إلى عبيدالله بن زياد فأمر به فأصعد إلى أعلى القصر فضربت عنقه وألقى جثته إلى الناس، وأمر بهانئ فسحب إلى الكناسة فصلب هناك، وقال شاعرهم:
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري ... إلى هانئٍ بالسوق وابن عقيل
أصابهما أمر الأمير فأصبحا ... أحاديث من يسعى بكل سبيل
أتركب أسماء الهماليج آمنًا ... وقد طلبته مذحج بقتيل
وأقبل الحسين عليه السلام بكتاب مسلم إليه حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال لقيه الحرُّ بن يزيد التميمي فقال له: أين تريد؟ قال: أريد هذا المصر، قال له: ارجع فإني لم أدع لك خلفي خيرًا أرجوه، فهمَّ أن يرجع، وكان معه إخوة مسلم بن عقيل فقالوا: والله لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نقتل، فقال: لا خير في الحياة بعدكم فسار، فلقيه أول خيل عبيدالله بن زياد، فلما رأى ذلك عدل إلى كربلاء وأسند ظهره إلى قصب أو خلاف لا يقاتل إلا من وجه واحد، فنزل وضرب أبنيته، وكان أصحابه خمسة وأربعين فارسًا، ونحوًا من مائة راجل، وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص قد ولاه عبيدالله بن زياد وعهد إليه عهدًا، فقال: اكفني هذا الرجل، فقال: اعفني، فأبى أن يعفيه، قال: فأنظرني الليلة، فأخره فنظر في أمره، فلما أصبح غدا عليه راضيا بما أمره به، فتوجه عمر بن سعد إلى الحسين بن علي عليه السلام، فلما أتاه، قال له الحسين عليه السلام: اختر واحدةً من ثلاث: إما أن تَدَعُوني فألحق بالثغور، وإما أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تدعوني فأنصرف من حيث جئت، فقبل ذلك عمر بن سعد، فكتب إلى عبيدالله ابن زياد، فكتب إليه عبيدالله: لا ولا كرامة حتى يضع يده في يدي، فقال الحسين ابن علي عليهما السلام: لا والله لا يكون ذلك أبدًا.
