مقتله ومبلغ عمره عليه السلام
رماه داود بن كيسان من أصحاب يوسف بن عمر بنشابة فأصاب جبينه، فأمر للطبيب فعرفه أنه إن نزعها مات من ساعته، فقال عليه السلام: الموت أهون عليّ مما أنا فيه، فعهد عليه السلام عهده وأوصى وصيته، وكان من وصيته إلى ابنه يحيى عليه السلام أن قال: يا بني؛ جاهدهم فوالله إنك لعلى الحق وإنهم لعلى الباطل، وإن قتلاك لفي الجنة وإن قتلاهم لفي النار، ثم نزعت النشابة منه فقضى من حينه سلام الله عليه، وكان ذلك في عشية الجمعة لخمس بقين من المحرم سنة اثنتين وعشرين ومائة على أصح الروايات، وقيل: سنة إحدى وعشرين، وهو الذي ذكره العقيقي، حكى ذلك كله السيد أبو طالب عليه السلام.
فلما توفي عليه السلام اختلف أصحابه في دفنه، ثم اتفقوا على أن عدلوا نهرًا عن مجراه، ثم حفروا له ودفنوه وأجروا الماء على ذلك الموضع، وكان معهم في تلك الحال غلام سندي، فلما أصبح نادى منادي يوسف بن عمر من دلَّ على قبر زيد بن علي كان له من المال كذا وكذا، فدلهم عليه ذلك الغلام فاستخرجوه عليه السلام من قبره ثم احتزوا رأسه فوجهوا به إلى هشام بن عبدالملك وصلبوا جثته بالكناسة.
وكان له في صلبه من الكرامات ما يدل على علو منزلته عند الله عز وجل، فمن ذلك ما روي أن العنكبوت كانت تنسج على عورته ليلًا، فكانوا -لعنهم الله- إذا أصبحوا يهتكون نسجها بالرماح.
ومنها: أن امرأة مؤمنة مرّت فطرحت عليه خمارها فالتاث بمشيئة الله عز وجل فصعدوا فحلوه، فاسترخت سرته حتى غطت عورته، ومرّ به رجل فأشار إليه بإصبعه وهو يقول: هذا الفاسق ابن الفاسق فغابت إصبعه في كفه. ومنها: ما روي أن طائرين أبيضين جاءا فوقع أحدهما على قصر والثاني على قصر آخر، فقال أحدهما للآخر:
تنعى زيدا أو أنعاه | قاتل زيد لا نجاه |
فأجابه الآخر: يا ويحه باع آخرته بدنياه.
وروي أن رجلين من بني ضبة أقبلا ويد كل واحد في يد صاحبه حتى قاما بحذاء خشبة زيد بن علي عليهما السلام، فضرب أحدهما بيده على الخشبة وهو يقول: ﴿إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ [المائدة:33]، قال: فذهب ليحني يده فانتثرت بالأكلة، ووقع شقه فمات إلى النار.
ولما وجه برأس زيد بن علي عليهما السلام إلى هشام بن عبدالملك بعث به إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى إبراهيم بن هاشم المخزومي، فنصب رأسه فتكلم أناس من أهل المدينة وقالوا لإبراهيم: لا تنصب رأسه فأبى، وضجت المدينة بالبكاء من دور بني هاشم كيوم الحسين عليه السلام فلما نظر كثير بن كثير بن المطلب السهمي إلى رأس زيد بن علي عليهما السلام بكى وقال: نضَّر الله وجهك أبا الحسين وفعل بقاتلك، فبلغ ذلك إبراهيم بن هشام، وكانت أم المطلب أروى بنت الحارث بن عبدالمطلب، وكان كثير الميل إلى بني هاشم، فقال له إبراهيم بلغني عنك كذا وكذا، فقال: هو ما بلغك، فحبسه وكتب إلى هشام فقال وهو محبوس:
إن امرأ كانت مساويه وكذا بني حسن فوالدهم ويرون ذنبا أن أحبكم | حبّ النبي لغير ذي ذنب من طاب في الأرحام والصلب بل حبكم كفارة الذنب |
فكتب فيه إبراهيم إلى هشام، فكتب إليه هشام: أن أقمه على المنبر حتى يلعن عليًّا وزيدًا فإن فعل وإلا فاضربه مائة سوط على مائة، فأمره أن يلعن عليًا فصعد المنبر فقال:
لعن الله من يسب عليا تأمن الطير والحمام ولا يأ طبت بيتا وطاب أهلك أهلا مرحبا بالمطيبين من النا رحمة الله والسلام عليكم | وبنيه من سوقة وإمام من آل النبي عند المقام أهل بيت النبي والإسلام س وأهل الإحلال والإحرام كلما قام قائم بسلام |
وروينا عن عيسى بن سوادة قال: كنت بالمدينة عند القبر عند رأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد جيء برأس زيد بن علي عليهما السلام في رهط من أصحابه فنصب في مؤخر المسجد على الرمح ونودي في أهل المدينة: برئت الذمة من رجل بلغ الحلم لم يحضر المسجد، فحشر الناس الغرباء وغيرهم، فلبثنا سبعة أيام يخرج الوالي محمد بن هشام المخزومي فيقوم الخطباء الذين قاموا بالرؤوس فيخطبون فيلعنون عليًا والحسين وزيدًا وأشياعهم، فإذا فرغ قام القبائل عربيهم وعجميهم وكان بنو عثمان أول من قام فيلعنون، ثم بطون قريش والأنصار وسائر الناس حتى إذا صلى الظهر انصرف ثم عاد في الغد مثلها سبعة أيام، فقام رجل من قريش في بعض تلك الأيام وهو محمد بن صفوان الجمحي وهو أبو هذا القاضي قاضي أبي جعفر فقال له محمد بن هشام: اقعد، ثم عاد فقام من غير أن يدعى، فقال له محمد بن هشام: اقعد، فقال: إن هذا مقام لا يقدر عليه كل ساعة، قال: فتكلم، فأخذ في خطبته، ثم تناول يلعن عليًا عليه السلام وأهل بيته والحسين بن علي وزيد بن علي عليهم جميعا السلام ومن كان يحبهم، فبينا هو؛ إذ وضع يده على رأسه، ووقع على الأرض، فظننت أن خطبته قد انقضت فلم أعلم حتى إذا كان من الليل انتشر خبره، فرماه الله عز وجل في رأسه بصداع لا يتمالك من الصداع حتى ذهب بصره في تلك الساعة، وكان رجل مستند إلى القبر فضرب بيده إليّ فزعًا! قلت: ما رأيت؟ قال: رأيت القبر انشق فخرج منه رجل عليه ثياب بيض فاستقبل المنبر فقال: كذبت لعنك الله.
وعن شبيب بن غرقد قال: قدمنا حجاجًا من مكة فدخلنا الكناسة ليلًا، فلما أن كنّا بالقرب من خشبة زيد [بن علي عليهما السلام أضاء لنا الليل، فلم نزل نسير قريبًا من خشبته فنفحت] رائحة المسك قال: فقلت لصاحبي: هكذا توجد رائحة المصلبين؟! قال: فهتف بي هاتف وهو يقول: هكذا توجد رائحة أولاد النبيين الذين يقضون بالحق وبه يعدلون.
وروينا عن حفص بن عاصم السلولي قال: حدثنا أحمد بن إسماعيل بن اليسع العامري، وكان في دار اللؤلؤ قال: رأيت عرزمة أخا كناسة الأسدي، وكان من أبهى الرجال وأحسنهم عينًا، وكان في كل يوم ينطلق إلى الكناسة فيقعد عند الذين يحرسون خشبة زيد بن علي عليهما السلام، وكان هناك مجمع الأسديين فكان يلتقط في طريقه سبع حصيات، ثم يجيء فيجلس في القوم، ثم يقول: هاكم في عينه فيخذف زيد بن علي عليهما السلام بتلك السبع الحصيات في كل يوم، قال إسماعيل بن اليسع: فوالذي لا إله غيره ما مات حتى رأيت عينيه مرفودتين كأنهما زجاجتان خضراوان.
ثم أقام زيد بن علي عليهما السلام مصلوبًا على الخشبة سنة وأشهرا، وقيل: أيامًا وقيل: سنتين، ذكره السيد أبو طالب عليه السلام.
وروينا من طريق المرشد بالله عليه السلام يرفعه إلى رجاله: أنه مكث مصلوبًا إلى أيام الوليد بن يزيد، فلما ظهر يحيى بن زيد كتب الوليد إلى يوسف أما بعد: فإذا أتاك كتابي هذا فانظر عجل أهل العراق فاحرقه وانسفه في اليم نسفًا، فأمر به يوسف عند ذلك: خراش بن حوشب فأنزله من جذعه فأحرقه بالنار، ثم جعله في قواصر، ثم حمله في سفينة، ثم ذراه في الفرات، سلام الله عليه وعلى آبائه الطاهرين.
وروت الشيعة أن رماده اجتمع في الفرات حتى صار مثل هالة القمر يضيئ ضياء شديدًا وموضع ذلك معروف يستشفى به.
وكان هشام -لعنه الله- لما أتى إليه برأسه ألقاه بين الدجاج، فقال بعض أهل الشام: اطردوا الديك عن ذؤابة زيد، فلقد كان لا تطأه الدجاج، وافتخر شاعر بني أمية بقتله وصلبه فقال:
صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة | ولم نر مهديا على الجذع يصلب |
ولقد مكن الله تعالى وزير آل محمد أبا حفص الخلّال السبيعي من صلب هشام بن عبدالملك وضربه وتحريقه، وذلك أنه لما مات طلوه بالصبر لئلا يبلى، فوجدته الشيعة لما نبشته مثلما دفن، فقال بعض شعراء أهل العصر في كلمة يمدح فيها الإمام المنصور بالله عليه السلام:
وكم صون جسم كان فيه هلاكه | كما ضرّ بالتّصبير جسم هشام |
ولأبي ثميلة الأنباري يرثي زيد بن علي عليهما السلام:
يا أبا الحسين أعار فقدك لوعة فعر السهاد ولو سواك رمت به فصعرت بعدك كالسليم وتارة ونقول: لا تبعد، وبعدك داؤنا كنت المؤمل للعظائم والنهى فقتلت حين نضلت كل مناضل وطلبت غاية سابقين فنلتها وأبى إلهك أن تموت ولم تسـر والقتل في ذات الإله سجية والوحش آمنة وآل محمد نصبا إذا ألقى الظلام ستوره يا ليت شعري والخطوب كثيرة ما حجة المستبشـرين بقتله | من يلق ما لا لاقيت منها الأقدار حيث رمت به لم يشهد أحكى إذا أمسيت فعل الأرمد وكذاك من يلقى المنية يبعد ترجى لأمر الأمة المتأود وصعدت في العلياء كل مصعّد بالله في سنن كريم المورد فيهم بسيرة صادق مستنجد منكم وأخذ بالفعال الأمجد من بين مقتول وبين مطرد رقد الحمام، وليله لم يرقد أسباب موردها وما لم تورد بالأمس أو ما عذر أهل المسجد |
وروى السيد المرشد بالله أبو الحسين يحيى بن الحسين الجرجاني الحسيني عليه السلام للفضل بن عبدالرحمن بن العباس يرثي زيد بن علي عليهما السلام:
ألا يا عين فاحتفلي وجودي ولا حين التجلّد فاستهلي أبعد ابن النبي أبي حسين يظل على عمودهم ويمسـي تعدى الكافر الجبار فيه فظلوا ينبشون أبا حسين فطال تلعبهم عتوا فجاور في الجنان بني أبيه وكائن من أب لأبي حسين ومن أبناء أعمام سيلقى ورود الحوض يوم يذب عنه ويصـرف حزبه معه جميعًا دعاه معشـر نكثوا أباه ثقلتنا وتحبسنا عقوقا وتطمع في مودتنا ألا لا وقالوا: لا نصدقهم بقول وساوى بعضهم فيه لبعض فنحن كمن مضـى منا وأنتم فقد منع الرقاد مصاب زيد فقد لهجوا بقتل بني علي وكائن من شهيد يوم ذاكم من أنفسكم إذا نطقت بحق ولست بآيس من أن تصيروا | بدمعك ليس ذا حين الجمود وكيف بقاء دمعك بعد زيد صليب بالكناسة فوق عود بنفسـي أعظما فوق العمود فأخرجه من القبر اللحيد خضيبًا بينهم بدم جسيد وما قدروا على الروح الصعيد وأجدادهم خير الجدود من الشهداء أو عم شهيد هم أولى به عند الورود فيمنعه من الطاغي الجحود ظماء يبعثون إلى الصديد حسينا بعد توكيد العهود وتجعلنا أمية في القيود فما منّا أمية من ودود وما قبلوا النصيحة من رشيد فريق القوم في ذات الوقود كشيعتكم من أصحاب الخدود وأذهب فقده طعم الهجود ولجوا في ضلالهم البعيد عليه يا أمية من شهود من الأسماع منكم والجلود خنازيرا وفي صور القرود |