نموذج من حرص أئمة العترة على ترسيخ الحق ولو انفض عنهم الناس
ذكر في كتاب النبذة المشيرة ما يلي : أخبرني الشيخ الرئيس صلاح بن ناصر بن مفضل المعمري ثم الحيمي أنه وصل من الحيمة إلى الإمام عليه السلام بعد خروجه من برط إلى وادعة في الخرجة الأخرى هذه، قال: فكنت عنده بعد التئام وادعة له عليه السلام فدخل عليه كبارهم وقالوا: لنا منك خبر لا يطلع عليه غيرك فقام أهل حضرته الشريفة وقمت معهم فقال الإمام عليه السلام: أما أنت يا شيخ فغير مقصود بالقيام لأنك من جهات بعيدة فبقيت عنده فتكلم متكلمهم وقال: يا مولانا هذه ساعة جهاد والعدو مقبل علينا وثم شرائع وتنازع ودعاوي بين قوم ضعفاء قد رهنوا أموالهم من الكبراء والأغنياء، وقد ظهر من مذهبك إبطال بيع الرجاء وعلل الرهان فلو أخرجت هذه المسألة حتى ينفصل العدو ويظهرك الله عليه لئلا يحصل سبب ذلك تخذيل وفتنة بين الناس أو كما قالوا.
قال الشيخ المذكور: فرأيته عليه السلام وقد تقطب وجهه بالغضب ثم قال: أتقولون لي ذلك وأخون الله في بلاده وعباده، وماذا المقصود من الجهاد غير إنفاذ أحكام الله، ثم أقسم بالله لو تحملون على الترك بتاء الخطاب الحاضر في حجزكم لا فعلت ثم قال: وكيف نرجوا نصرته ونحن لا ننصر أحكامه أو كمال قال، ثم طلب السيد العلامة عز الدين محمد بن علي بن عشيش وكان إليه القضاء قال أنفذ الأحكام على القوي والضعيف ولو كان ما كان، وتفرق المشائخ وقد استحوا كثيراً، ثم أقبل العجم وكان ما تقدم من الانتصار عليهم، ولما سمع هذه الرواية الشيخ جمال الدين علي بن أحمد بن جابر السيراني ثم الأهنومي، قال: وقد كان من مشائخ الأهنوم والله مثلها، وكان الجواب كذلك، والله أعلم حيث يجعل رسالاته
وذكر في كتاب مآثر الأبرار ما لفظه : وكان الإمام المنصور [بالله] [عليه السلام] قبل قيامه محبًا لأن يلي الخلافة أحدهما، ويكون هو له من أكبر الأعوان، فمن قوله في الأمير شمس الدين:
أصدق ما قال به القائل
يا ابن علي بن أبي طالب
ولا تشكك في اتباع الهدى
وادع فعندي أنها دعوة
فأنت لا أنطقها كاذبًا
ما أحوج السيف إلى الحامل
قم فانصـر الحق على الباطل
ولا تصخ إن عذل العاذل
كاملة في رجل كامل
عالم أهل البيت والعامل
ولكنهما كانا زاهدين فيها فهما لا يريدان إلا ما فيه الخير والصلاح لهذه الأمة، وقد رأيا في الإمام المنصور عليه السلام بغيتهما فسعيا في بيعته وسارا في الناس ينشران فضائله حتى تم لهما ما أرادا وحصلت البيعة الجامعة للإمام في الجامع المقدس بصعدة بعد أن امتحنه العلماء بمعضلات المسائل وسبروا كماله وتحققوا أهليته لهذا المنصب الشريف فبايعوه راضيين مختارين، فهذا نموذج لآلية اختيار الإمام عند العترة الزكية لا تؤول إلا إلى التمام وانتظام الأمور إذا خلصت النوايا وطلب كل الحق وآثره على هواه.
وذكر أيضا في المصدر السابق ما معناه: ومما يدل على تعظيم الإمام المنصور [بالله] عليه السلام للأميرين المذكورين [من] إنصافه لهما في جواب عليهما؛ لأنه كان له أمير متوليًا على صعدة وهو الأمير سليمان بن موسى الحمزي، فاتفق في أيام ولايته أن أخرب قهرة مزيد، وهو رجل من بني مالك، له تعلق بالأميرين المذكورين، فبلغهما ما اتفق فكتبا إلى المنصور يذكران له ذلك، ويستنكران إثقاله للمغارم على الرعية، وعمله بخلاف السنة النبوية، وأنه فعل أفعالًا لم تفعل في دولة سيف الإسلام، وأنه [قد] أقدم على نقض الذمة في أمر مزيد، ويربوع وخراب القهرة). هذا مضمون كلامهم في الكتاب، فلما وصل إلى الإمام المنصور [بالله عليه السلام] أجاب عليهما، فكان من جملة كلامه: وما ذكراه أدام الله عزهما من التغريم بخلاف السنة النبوية، فلو اعتقدناه خلاف السنة ما أقررنا سليمان عليه، ولا حابيناه في حق الله تعالى، لو كان يملك لنا الأرض، ولكن عندنا أن التغريم للجنود المحقة جائز، وأنتما الشاهدان [المحقان] الصادقان لنا على أهل الحقل بأنا كتبنا إليهم، وإلى أهل صعدة أن يرجعوا، ولا يخالطوا الظالمين، فخالفوا الأمر، وكانوا يدًا ورجلًا لأعداء الله، وأما الذمة لمزيد ويربوع، فلم يقع في ذمة كبار المسلمين وأمرائهم، فكيف وأنتم في الدين قدوة، ودعاة رسل، وأئمة هدى! وأما أنه لم يفعل هذا في دولة سيف الإسلام -لعنه الله- فإن كان المراد أنه أكثر، فلا يمنع أن يدفع المحق أكثر مما يدفع المبطل، والحديث هل يجوز التغريم أم لا يجوز؟ فأما الفعل في قهرة يربوع، وقهرة مزيد، فما أوجبه شرع النبي بحكمكم، أو حكم من نتصوبه على سليمان بن موسى لم يقدر على الامتناع منه في روحه، ولا في عسكره لو كان في ألف فارس لم يمتنع منكم من صاحب العصا، ووجه الحق وقاح لا يستحي من أحد، ولو وجب عليكم حق تحملته دينًا ومنعًا، ولو تعبنا فيه، وتلفت نفوسنا نريد بذلك رضاكم لله تعالى، ولكن لا تعجلوا حتى تتبينوا، انتهى مختصرا.