قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}
قالوا: معناها إن الله غطى على قلوب الكفار، ومنعها من وصول الإيمان إليها.
ونقول في الجواب زيادة على ما تقدم: إن الله تعالى أمر الكفار ونهاهم، ولو كانت قلوبهم كما تقول المجبرة لم يأمرهم ولم ينههم، وذلك أن خطاب من لا يعقل نقيصة يجب تنزيهه عنها.
وقال بعض العدلية: إن الطبع والختم من الله تعالى هو أن يجعل تعالى في قلوب الكفار والفساق نكتة سوداء ليتميزوا بها للملائكة.
وهذا عكس المؤمن فإن الله تعالى يجعل في قلبه نكتة بيضاء.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: (الإيمان يبدو لمظة كلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة).
وقد أجيب بأن أعمال الكفار والفساق أوضح من ذلك، مع أن الملائكة صلوات الله عليهم لا يرون ما وَارَاه اللباس من العورة، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم يغضون أبصارهم عند قضاء الحاجة.
وما روي عن علي عليه السلام فهو استعارة يراد بها التنوير والبصيرة.
نعم، الأولى في الطبع والختم أن يقال: إن الطبع والختم في نحو قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ…} [البقرة: 7] قد جاء على طريق الكناية التي هي أبلغ من التصريح، ويكون المعنى المراد حينئذ الإخبار عن الكفار بأنهم قد بلغوا في الغفلة والإعراض والتعنت وترك النظر والاستماع إلى آيات الله إلى الغاية والنهاية، وهذه الغاية والنهاية التي وصل إليها الكفار من الإعراض والغفلة و… إلخ، صورها الله لنا بأبلغ تصوير وأوضحه وأتمه، وذلك في ذكره للختم والطبع، حيث إن السامع لا يتصور الغفلة البالغة، والإعراض العظيم، والتعنت في أقصى غاياته، و… إلخ تمام التصور إلا في مختوم القلب ومطبوعه، الذي استحكم ختمه وطبعه، بحيث لا يتصور منه الفهم والإدراك.
وقد أخبر الله تعالى عن هذا المعنى الذي ذكرنا بأسلوب آخر في قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ171} [البقرة] فشبه الله تعالى الكفار بالأنعام التي لا تسمع إلا مجرد الأصوات من غير فهم لما يقال لها، ثم أخبر تعالى عنهم بأنهم صم لا يسمعون، وعمي لا يبصرون، وبكم لا يتكلمون، وأخيراً قال: فهم لا يعقلون، وكل ذلك يراد به التصوير لما ذكرنا من شدة الإعراض والغفلة و.. إلخ.
ولم يرِد الباري تعالى أن يخبر بأنهم صم على الحقيقة، وعمي على الحقيقة، وبكم على الحقيقة، ولا يعقلون على الحقيقة، وذلك أن المعلوم أنهم كانوا بصراء ذوي أسماع، يرون آيات الله ويسمعونها، وكانوا ذوي ألسنة وفصاحة، وفي هذه الآية الأخيرة دليل على ما ذكرنا من تفسير آية الختم.
لِمَ أسند الختم والطبع إلى الله؟
فإن قيل: لم أسند الختم والطبع إلى الله؟
قلنا: إسناد ذلك إلى الله مما يزيد في قوة الكناية عن المعنى المراد الذي ذكرناه.
هذا، ومما يزيد في قوة المعنى الذي ذكرنا قوله تعالى في الكفار وإعراضهم عن سماع الآيات وعن النظر فيها: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ5} [فصلت].
فإن الكفار حين دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام، وكرر عليهم الدعاء، أرادوا أن يقنعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجواب مقنع وحاسم، لا يطمع وراءه في إيمانهم، ولا يكون له بعده رجاء في إسلامهم، فقالوا: (قلوبنا مغطاة ومحجوبة بأكنة، فلا يصل إليها ما تدعونا إليه من دينك، وآذاننا مسدودة بالوقر فلا نسمع صوت دعوتك، وبيننا وبينك حجاب يحول بيننا وبين ما تدعوا إليه، فأنت وشأنك، فإنا مصرون على ما نحن عليه من الشرك، وعاملون أعماله، لا نفارق ذلك).
ومما لا شك فيه أنهم لا يريدون الإخبار بأن قلوبهم مغطاة على الحقيقة، وأن آذانهم مسدودة لا تنفذ إليها الأصوات و… إلخ. وعلى مثل ما ذكرنا من التفسير يفسر قوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] ونحوه، وكل ذلك كناية عما ذكرنا من المعنى