1-دليل العقل
أ- دليل العقل عند الزيدية:
دليل العقل: هو أول الأدلة عند الزيدية وأقواها، ولنتكلم هنا على شيئين اثنين:
- توضيح الدليل على صحة دعواهم أن العقل حجة قاطعة في الدين.
- توضيح أن دليل العقل هو أقوى الأدلة.
فنقول: الدليل على ما ادعينا من أن العقل حجة قاطعة في الدين- هو دليل ضروري وجداني لولا تلوث الكثير من فطر العقول بالمذاهب الخرافية التقليدية الموروثة التي يتلقاها الخلف عن السلف، وينشأ عليها الصغير ويهرم الكبير.
فإن قال القائل: إن الأحكام الضرورية لا تزول بالتشكيك والتلبيس، فإن العاقل لا يقبل ولا يصدق من يروِّج له بأن الليل نهار أو العكس؛ لذلك فإن حكم العقل لو كان ضرورياً كما تقولون لم يقع فيه اختلاف بين طوائف المسلمين.
قلنا في الجواب: ليس الأمر كما ذكرتم، ألا ترى أن مشركي العرب بما فيهم قريش مع ما هم عليه من زكاء الفطرة، وتوقد الذكاء- كانوا يعبدون الحجارة ويحلفون بها، ويحاربون دونها، ويخاطبونها، ثم مع ذلك ربما رموها واستبدلوا بها غيرها..إلى آخر مذاهبهم الخرافية التي تمجها الفطرة، ويأباها العقل بضرورته.
وهناك جواب آخر: هو أن الوهم قد يسيطر فيضعف لسيطرته حكم العقل الضروري، وهذا أمر وجداني، ألا ترى أن الرجل قد يكون في مكان خال أو في غرفة من بيته نهاراً فإذا جاء الظلام صور له الوهم والخيال أشباحاً وأهوالاً يقشعر منها جلده، ومع هذا فإن العقل يحكم في هذه الحال بخلو المكان عن تلك الأشباح المخيفة، فلا يلتفت الخائف إلى حكمه، وذلك لسيطرة الوهم والخيال.
وهكذا قد تسيطر المذاهب الخرافية المتصادمة مع حكم الفطرة الضروري الجازم، فمن أجل ذلك كان ينبغي أن لا يحتاج إلى نصب الأدلة في مثل ذلك، بل كان يكفي المكلف أن يرجع إلى نفسه ووجدانه في معرفة الخطأ والصواب هنا، غير أنه لا مانع من زيادة البيان فنقول:
إن الله سبحانه وتعالى ذم قوماً أهملوا النظر والتفكير بعقولهم فقال جل شأنه: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ179﴾ [الأعراف]، فذمهم الله تعالى هنا حين أهملوا أدوات الفكر وآلاته التي سوف توصلهم حتماً إلى معرفة الحق وتمييزه عن الباطل.
وآلات الفكر المذكورة هنا هي: بصر العين وسمع الأذن وتفكير القلب، والمراد ببصر العين هو بصر الاعتبار لا البصر المجرد عنه، فإنهم قد كانوا بصراء، وكذلك المراد بالسمع، فعن طرق البصر والسمع يبصر القلب ويسمع ثم يستنتج ويحكم، وبهذا العمل الفكري يتميز الإنسان عن غيره من الحيوانات.
فإذا أهمل الإنسان هذه الوظيفة فإنه عند الله تعالى وفي حكمه كالأنعام، بل أضل منها كما سمعت في الآية السابقة.
وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ78﴾ [النحل]، ففي هذه الآية يعين الله تعالى الغاية التي من أجلها جعل للإنسان السمع والبصر والفؤاد، وهذه الغاية هي الشكر لله، والشكر لله يتمثل في الإيمان، ثم العمل الصالح.
وقال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ190﴾ [آل عمران]، وأولو الألباب هم أولو العقول، فمن أهمل التفكير في آيات الله فهو في حكم الله من أشباه الأنعام بل أضل.
هذا، وقد أمر الله بالتفكر والنظر في آيات الله المبثوثة في الآفاق ليتوصلوا بذلك إلى الإيمان بالله والتصديق برسوله وكتابه، فقال جل شأنه: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس:101]، وكم في القرآن من أمثال هذه الآية.
وقال تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف:157]، فيؤخذ من هذه الآية وما أشبهها في القرآن أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إنما يأمرهم بما تعرفه عقولهم وتأنس به، وتنجذب إليه، وأنه ينهاهم عما تنكره عقولهم، وتستوحش منه، وتنفر عنه، ولا تأنس به.
وكذلك فإنه يحل لهم ما تستطيبه أنفسهم وتنجذب إليه وتستحسنه، ويحرم عليهم ما تستخبثه أنفسهم، وتأباه عقولهم وتستقبحه.
والدليل على صحة ما ذكرنا من التفسير: هو ما تقرر في الإسلام أنه لا عبرة بميل الهوى والشهوة، ولا استحسانهما أو استقباحهما، ومن هنا يقول الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ…﴾ الآية [الجاثية:23]، ويقول سبحانه: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى40 فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى41﴾ [النازعات]، لهذا فيكون المراد هو ما يعرفه العقل وما ينكره وما يستطيبه ويستخبثه.
ب – توضيح أن العقل أقوى الأدلة:
توضيح ذلك أن العقل هو الطريق الوحيد إلى تصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به عن الله سبحانه وتعالى من الكتاب والسنة.
وذلك أن الكفار الذين جاءهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كانوا غير مؤمنين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا بالكتاب ولا بالسنة وغير مقتنعين بذلك، فجاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أجل ذلك بحجة أخرى هي المعجزة وهي دليل عقلي.
ومن هنا قال قائل المشركين عندما سمعوا آيات القرآن: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، والله ما هو بكلام البشر. أو كما قال.
وهكذا سائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فجاء موسى عليه السلام بالعصا و…إلخ، وعيسى عليه السلام بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وجاء صالح عليه السلام بالناقة، و…إلخ.
فعن طريق المعجزة بواسطة النظر فيها يتوصل المكلف إلى الإيمان والتصديق بالأنبياء والرسل، وبما جاءوا به من عند الله.
لذلك قلنا: إن العقل أقوى الأدلة حيث كان هو الطريق إلى الإيمان بالله وبرسله وكتبه.
[من ثمار العلم والحكمة للسيد العلامة الحجة/محمد بن عبدالله عوض المؤيدي حفظه الله]