ب- دور أهل البيت الزيدية في توحد الأمة
توحد الأمة واجتماعها مما نادى به الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾[آل عمران:103]، وقال: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ 105﴾
[آل عمران]، بل إنه سمى الاختلاف كفرًا، فقال: ﴿وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ﴾[البقرة:253]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)) فهذه الدعوة هي دعوة الله التي يجب على جميع المسلمين الاستجابة لها، وأئمة أهل البيت عليهم السلام أحرص الناس على اجتماع الكلمة ولمِّ الشمل، وأكبر خطوة لهم في هذا المجال هي أن يتمسكوا بالمنهج الصحيح الذي قامت عليه الدلالة القاطعة، وأن يصونوه من الزيغ والتحريف، وأن يحثوا الناس على تعلمه وأحياءه حتى يحفظوه لمن أراده وبحث عنه من الأمة في هذا الجيل والأجيال القادمة، وهم في هذا المجال السباقون الذين لا يمكن أن يلحق بهم أحد، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن عند كل بدعة يكاد بها الإسلام وليًا من أهل بيتي، يعلن الحق وينوره، ويرد كيد الكائدين، فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكلوا على الله)).
وعلماء الزيدية أعلى الله منارهم يؤلمهم تفرق الأمة، ويحزنهم ما آل إليه حالها في هذا الزمن من التفكك والتشرذم، وهم لا يألون جهدًا في سبيل لمِّ الكلمة وتوحيد الصف في كل فرصة تسنح لهم، وقد بثوا لواعجهم هذه وأطلقوا دعواتهم إلى ضرورة التوحد في أثناء كتاباتهم، وصدروها في مؤلفاتهم حسب ما أمكنهم، فليس لهم قنوات إعلامية توصل أفكارهم أو دولٌ تتبنى دعواتهم، ولا يكلف الله نفسًا إلى وسعها.
ومن الأمثلة على ذلك كلام الإمام الحجة المجدد للدين مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي عليه السلام في تقديمه لكتاب المصابيح:
هذا وقد وقع علم قطعًا وقوع الافتراق في الدين، وأحاديث افتراق الأمة يصدقها الواقع، وقد قال تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ 118 إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾[هود]، قال نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليهم في تفسيره: قال الله: ﴿مُخْتَلِفِينَ﴾؛ لأن الاختلاف لا يزال أبدًا بين المحقين والمبطلين، وهو خبر من الله تعالى عما يكون، وأنهم لن يزالوا مختلفين فيما يستأنفون، فالاختلاف منهم وفيهم، ولذلك نسبه الله إليهم.
وقوله: ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾: يريد المؤمنين فإنهم في دينهم متآلفون غير مختلفين، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ يقول سبحانه: للمكنة [أي: للتمكين] مما يجب به الثواب والعقاب من السيئة والحسنة، ولو لا خلقه لهم كذلك وعلى ما فطرهم من ذلك لما اختلفوا في شيء، ولما نزل عليهم أمر ولا نهي، ولما كان فيهم مسيء، ولا محسن، ولا كافر، ولا مؤمن … إلخ كلام القاسم عليه السلام.
إلى أن قال:
“نعم، وقد صار كل فريق يدعي أن الحق معه، والنجاة لمن اتبعه:
وكل يدعي وصلًا لليلى
وليلى لا تقر لهم بوصل
إلا أن نابغة ممن لا مبالاة عندهم بالدين، ومخالفة العقل، والكتاب المبين، ذهبوا إلى تصويب جميع الناظرين، وأغلب هذه الفئة ليس لها مأرب إلا مساعدة أهل السياسة، والتأليف للمفترقين، ولقد جمعوا بين الضلالات، وقالوا بجميع الجهالات.
إلى أن قال:
فإذا أحطت علمًا بذلك، وعقلت عن الله وعن رسوله ما ألزمك في تلك المسالك، علمت أنه يتحتم عليك عرفان الحق واتباعه، وموالاة أهله والكون معهم، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ 119﴾ [التوبة:119]، ومفارقة الباطل وأتباعه، ومباينتهم ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾[المائدة:51].
إلى أن قال:
ولن تتمكن من معرفة الحق، وأهله إلا بالاعتماد على حجج الله الواضحة، وبراهينه البينة اللائحة، التي هدي الخلق بها إلى الحق، غير معرج على هوى ولا ملتفت إلى جدال، ولا مراء، ولا مبال بمذهب ولا محام عن منصب، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾[النساء:135]، وقد سمعت الله ينعي على المتخذين أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، وما حكى من تبري بعضهم من بعض، ولعن بعضهم بعضًا، وتقطع الأسباب عندهم رؤية العذاب، ولا يروعنك احتدام الباطل وكثرة أهله، ولا يوحشنك اهتضام الحق وقلة حزبه، فإن ربك جل شأنه يقول: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ 103﴾[يوسف:103]، ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ 13﴾ [سبأ:13].
إلى أن قال:
واعلم -كما أسلفت لك- أن الدعاوى مشتركة بين جميع الفرق، وكلهم يدعي أنه أولى بالحق، وأن سادته وكبراءه أولو الطاعة، وأهل السنة، والجماعة، ومن المعلوم أنه لا يقبل قول إلا ببرهان كما وضح به البيان من أدلة الألباب، ومحكم السنة والكتاب.
وقد علم الله تعالى وهو بكل شيء عليم أنا لم نبن ما أمرنا كله إلا على الإنصاف، والتسليم لحكم الرب الجليل، بمقتضى الدليل: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾[الروم:30].
ثم ختم كلامه مقسمًا عليه السلام:
وأقول: قسمًا بالله العلي الكبير، قسمًا يعلم صدقه العليم الخبير ألا غرض ولا هوى لنا غير النزول عند حكم الله، والوقوف على مقتضى أمره، وأنا لو علمنا الحق في جانب أقصى الخلق من عربي أو عجمي أو قرشي أو حبشي لقبلناه منه، وتقبلناه عنه، ولما أنفنا من اتباعه، ولكنا من أعوانه عليه وأتباعه، فليقل الناظر ما شاء ولا يراقب إلا ربه، ولا يخشى إلا ذنبه فالحكم الله والموعد القيامة، وإلى الله ترجع الأمور.
وأيضًا كلام تلميذه السيد العلامة الحجة الحسين بن يحيى رحمه الله عن تفرق الأمة، قال في مقدمة كتابه القول السديد:
ومن العجب الذي تحار فيه الأفكار: أن هذه الأمة تفرقت إلى فرق شتى، وتدعي كل فرقة أنها على الحق، وصارت معجبة بما ذهبت إليه، وتضلل كل فرقة تخالف ما ذهبت إليه، وتحاول الرد على مخالفيها بالمقاهرة، والمغالبة، والتعصب الذي لا يتبين به الحق من الضلال..
ثم قال رحمه الله:
وكان اللائق بجميع علماء هذه الأمة، وكل أرباب المذاهب التعاون على الحق على معرفته، والانقياد له، وعلى البحث والتفتيش عنه بجد، وإخلاص، وتفاهم، وتواضع، وأن يعرفوا، ويفهموا أن المشكلة عامة للجميع، وأن هذه الداهية العظمى للجميع، وأن لا مخلص منها إلا باتباع الحق والاعتناق له.
إلى أن قال:
فيا ليت الأمة كلها يبعثون لهم هيئة من العلماء، الأذكياء، الأزكياء، الحلماء، المبتعدين عن الدنيا، واتباع الهوى، يتدارسون موضوع الآخرة، ويبحثون عن السبيل التي تقودهم إلى الجنة، وتصرفهم عن النار، بجد وإخلاص، وتواضع وانقياد، وينظرون في كل المذاهب، إلى الإيجابيات والسلبيات، ويفرقون بين الدليل والشبهة، حتى تكون الأمة كلها على بصيرة، ويقين من أمرهم.
ثم ختم كلامه مقسمًا:
فوالله الذي لا إله إلا هو إنا لو نعرف أن الحق مع اليهود، أو النصارى، أو أي فرقة من فرق المسلمين لانقدنا له، واعتنقناه، وتواضعنا له؛ لأنا لا نريد إلا طريق النجاة، ونعلم أن الحق طريق النجاة، وليس لنا عطاء من أحد على هذا المذهب، بل ونحب أن يكون الحق مع بعض المذاهب السهلة ونعتنقها، فلم نعتنق هذا المذهب الذي ذهبنا إليه رغبة فيه، بل قهرتنا الأدلة اليقينية عليه.
[القول السديد شرح منظومة هداية الرشيد، الحسين بن يحيى المطهر، صفحة ٢٠]