ذكر بيعته عليه السلام ومدة ظهوره
كان أول أمره عليه السلام أن خالد بن عبدالله القسري، ادعى مالًا قبل زيد بن علي، ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، وداود بن علي بن عبدالله بن العباس، وسعد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف، وأيوب بن سلمة بن عبدالله بن الوليد بن المغيرة المخزومي، فكتب فيهم يوسف بن عمر بن محمد بن الحكم عامل هشام على العراق إلى هشام. وزيد بن علي ومحمد بن عمر يومئذ بالرصافة، فلما قدمت كتب يوسف على هشام بعث إليهم فذكر ما كتب به يوسف فأنكروا، فقال لهم هشام: فإنا باعثون بكم إليه يجمع بينكم وبينه، فقال زيد: أنشدك الله وبالرحم أن تبعث بنا إلى يوسف، قال له هشام: وما الذي تخاف من يوسف؟ قال: أخاف أن يتعدَّى علينا، فدعا هشام كاتبه، فكتب إلى يوسف أما بعد: فإذا قدم عليك زيد وفلان وفلان فاجمع بينهم وبينه، فإن هم أقرَّوا بما ادّعى عليهم فسرَّح بهم إليَّ، وإن هم أنكروا فاسأله البينة فإن لم يقمها فاستحلفهم بعد صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو ما استودعهم وديعة، ولا له قبلهم شيء، ثم خلّ سبيلهم، فقالوا لهشام: إنا نخاف أن يتعدّى كتابك، قال: كلا أنا باعث معكم رجلًا من الحرس يأخذه بذلك حتى يفرغ ويعجل، قالوا: جزاك الله عن الرحم خيرًا، فسرح بهم إلى يوسف وهو يومئذ بالحيرة فاجتنبوا أيوب بن سلمة لخئولته من هشام ولم يؤخذ بشيء من ذلك، فلما قدموا على يوسف دخلوا عليه فسلموا، فأجلس زيدًا قريبًا منه وألطفه في المسألة، ثم سألهم عن المال فأنكروا، فأخرجه يوسف إليهم، وقال هذا زيد بن علي، ومحمد بن عمر بن علي اللذان ادّعيت قبلهما ما ادّعيت قال: ما لي قبلهما قليل ولا كثير، قال له يوسف: أبي كنت تهزأ وبأمير المؤمنين؟ فعذّبه عذابًا ظن أنه قد قتله، ثم أخرج زيدًا وأصحابه بعد صلاة العصر إلى المسجد فاستحلفوا، فكتب يوسف إلى هشام يعلمه بذلك، فكتب إليه هشام خل سبيلهم، فخلّى يوسف سبيلهم، فأقام زيد بعد خروجه من عند يوسف بالكوفة أيامًا، وجعل يوسف يستحثه بالخروج فيعتل عليه بالشغل، وبأشياء يبتاعها، فألح عليه حتى خرج فأتى القادسية.
ثم إن الشيعة التقوا به فقالوا: أين تخرج عنّا رحمك الله ومعك مائة ألف سيف من أهل الكوفة والبصرة وخراسان يضربون بها بني أمية دونك، وليس قبلنا من أهل الشام إلّا عدة يسيرة؟ فأبى عليهم، فلم يزالوا يناشدونه حتى رجع بعد أن أعطوه العهود والمواثيق، فقال له محمد بن عمر بن علي: أذكرك الله يا أبا الحسين لما لحقت بأهلك ولم تقبل قول أحد من هؤلاء الذين يدعونك، فإنهم لا يفون لك، أليسوا أصحاب جدك الحسين بن علي؟ قال: أجل، وأبى أن يرجع، وأقبلت الشيعة وغيرهم تختلف إليه يبايعونه حتى أحصى ديوانه خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة خاصة سوى أهل المدائن والبصرة وواسط والموصل وخراسان والري وجرجان، وأقام بالكوفة بضعة عشر شهرًا، وأرسل دعاته إلى الآفاق والكور يدعون الناس إلى بيعته، وأرسل الفضيل بن الزبير إلى أبي حنيفة، قال فضيل: فأتيته فأبلغته رسالة زيد، فخرس لا يدري ما يرد عليَّ، ثم قال: ويحك ما تقول أنت؟ قلت: لو نصرته فالجهاد معه حق. قال: فمن يأتيه في هذا الباب من فقهاء الناس؟ قلت: سلمة بن كهيل، ويزيد بن أبي زياد، وهارون بن سعد، وأبو هاشم الرماني، وحجاج بن دينار وغيرهم، فعرفهم فقال لي: اذهب اليوم فإذا كان الغد فأتني ولا تكلمني بكلمة إلا أن تجيء فتجلس في ناحية، فإني سأقوم معك فإذا قمت فأقف أثري، فأتيته من الغد فلما رآني قام فتبعته فقال: أقره مني السلام وقل له أمّا الخروج معك فلست أقوى عليه – وذكر مرضًا كان به – ولكن لك عندي معونة وقوة على جهاد عدوّك فاستعن بها أنت وأصحابك في الكراع والسلاح، وبعث بها إلى زيد فقوّى بها أصحابه، ويقال: إنه كان ثلاثين ألف درهم، ويقال: دينار.
قال السيد أبو العباس رحمه الله تعالى وبايعه ابن شبرمة، ومسعرة بن كدام، والأعمش، والحسن بن عمارة، وأبو حصين، وقيس بن الربيع.
وحضر معه من أهله الوقعة: محمد بن عبدالله بن الحسن الحسن (النفس الزكية)، وعبدالله بن علي بن الحسين عليه السلام، وابنه يحيى بن زيد، والعباس بن ربيعة من بني عبد المطلب.
ولما دنا خروج زيد بن علي عليهما السلام أمر أصحابه بالاستعداد والتهيؤ، فجعل من يريد أن يفي يستعد وشاع ذلك، وانطلق سراقة البارقي إلى يوسف بن عمر فأخبره خبر زيد عليه السلام، فبعث يوسف فطلب زيدًا ليلًا فلم يوجد عند الرجلين الذي سعى إليه أنه عندهما، فأتى بهما يوسف فلما كلمهما استبان له أمر زيد وأصحابه، وأمر بهما يوسف فضربت أعناقهما، وبلغ الخبر زيدًا وأصحابه فتخوّف أن تؤخذ عليه الطريق، فتعجل الخروج قبل الأجل الذي ضرب بينه وبين أهل الأمصار، واستتبّ لزيد خروجه، وكان قد وعد أصحابه ليلة الأربعاء أول ليلة من صفر سنة اثنتين وعشرين ومائة، فخرج قبل الأجل، وبلغ ذلك يوسف بن عمر فبعث الحكم بن الصّلت يأمره أن يجمع أهل الكوفة إلى المسجد الأعظم يحصرهم فيه، فبعث الحكم إلى العرفاء والشرط والمناكب والمقاتلة فأدخلوهم المسجد، ثم نادى مناديه: أيما رجل من العرب والموالي أدركناه في رحلة الليلة فقد برأت منه الذمة، ائتوا المسجد الأعظم، فأتى الناس المسجد يوم الثلاثاء قبل خروج زيد، وطلبوا زيدًا في دار معاوية بن إسحاق، فخرج ليلًا، وذلك ليلة الأربعاء لسبع بقين من المحرم في ليلة شديدة البرد من دار معاوية بن إسحاق، فرفعوا الهراديّ فيها النيران، فنادوا بشعارهم شعار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا منصور أمت)، فما زالوا كذلك حتى أصبحوا، فلما أصبحوا بعث زيد القاسم ابن فلان التبعي ورجلًا أخر يناديان بشعارهما، وقال يحيى بن صالح ابن يحيى بن عزيز بن عمر بن مالك بن خزيمة التبعي، وسمى الآخر وذكر أنه صدام، قال سعيد: ولقيني أيضًا وكنت رجلًا صيّتًا أنادي بشعاره قال ورفع بن الجارود زياد بن المنذر الهمداني هرديًّا من مئذنتهم ونادى بشعار زيد، فلما كانوا في صحاري عبد القيس لقيهما جعفر بن العباس الكندي فشد عليه وعلى أصحابه فقتل الرجل الذي كان مع القاسم وارتث القاسم، فأتي به الحكم بن الصلت، فكلمه فلم يرد عليه، وضربت عنقه على باب القصر، فكان أول قتيل منهم، وقالت بنته تبكيه:
عين جودي لقاسم بن كثير
عين جودي لقاسم بن كثير أدركته سيوف قوم لئام سوف أبكيك ما تغنّى حمام | بدرور من الدموع غزير من أولي الشرك والردى والثبور فوق غصن من الغصون نضير |
وقال يوسف بن عمر وهو بالحيرة: من يأتي الكوفة فيقرب من هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم؟ فقال عبدالله بن عياش المنتوف الهمداني: أنا آتيك بخبرهم، فركب في خمسين فارسًا، ثم أقبل حتى أتى جبانة سالم فاستخبر، ثم رجع إلى يوسف فأخبره، فلما أصبح يوسف خرج إلى تل قريب من الحيرة، فنزل معه قريش وأشراف الناس، وأمير شرطته يومئذ العباس بن سعد المزني.
قال: وبعث الريان بن سلمة البلوي في نحو من ألفي فارس وثلاث مائة من القيقانية رجالة ناشبة، وأصبح زيد بن علي وجميع من وافاه تلك الليلة مائتين وثمانية عشر رجالة، فقال زيد بن علي: سبحان الله! فأين الناس؟ قيل: هم محصورون في المسجد. قال: لا والله ما هذا لمن بايعنا بعذر.
قال: وأقبل نصر بن خزيمة إلى زيد فتلقاه عمر بن عبدالرحمن صاحب شرطة الحكم بن الصلت في خيل من جهينة عند دار الزبير بن أبي حكيمة في الطريق الذي يخرج إلى مسجد بني عدي، فقال: يا منصور أمت، فلم يرد عليه عمر شيئًا، فشد نصر عليه وعلى أصحابه فقتله وانهزم من كان معه، وأقبل زيد حتى انتهى إلى جبانة الصائديين وبها خمسمائة من أهل الشام، فحمل عليهم زيد في أصحابه فهزمهم، ثم مضى حتى انتهى إلى الكناسة فحمل على جماعة من أهل الشام فهزمهم، ثم شلهم حتى ظهر إلى المقبرة ويوسف بن عمر على التل ينظر إلى زيد وأصحابه وهم يكردون الناس ولو شاء زيد أن يقتل يوسف لقتله، ثم إن زيدًا أخذ ذات اليمين على مصلى خالد بن عبدالله حتى دخل الكوفة.
فقال بعض أصحابه لبعض: ألا ننطلق إلى جبانة كندة، قال وما زاد الرجل أن تكلم بهذا؛ إذ طلع أهل الشام عليهم، فلما رأوهم دخلوا زقاقًا ضيقًا، فمضوا فيه وتخلف رجل منهم فدخل المسجد فصلى ركعتين، ثم خرج إليهم فضاربهم بسيفه وجعلوا يضربونه بأسيافهم، ثم نادى رجل منهم فارس مقنع في الحديد: اكشفوا المغفر عن رأسه واضربوا رأسه بالعمود، ففعلوا فقتل الرجل، وحمل أصحابه عليهم فكشفوهم عنه، واقتطع أهل الشام رجلًا منهم فذهب ذلك الرجل حتى دخل على عبدالله بن عوف بن الأحمر، فأسروه وذهبوا به إلى يوسف بن عمر فقتله، وأقبل زيد بن علي على نصر، فقال: يا نصر بن خزيمة؛ أتخاف على أهل الكوفة أن يكونوا فعلوها حسينية؟ قال: جعلني الله فداك أما أنا فوالله لأضربن بسيفي هذا معك حتى أموت.
ثم خرج بهم زيد بن علي عليهما السلام يقودهم نحو المسجد فخرج إليه عبيدالله بن العباس الكندي في أهل الشام فالتقوا على باب عمر بن سعد، فانهزم عبيدالله بن العباس وأصحابه حتى انتهوا إلى باب الفيل، وجعل أصحاب زيد يدخلون راياتهم من فوق الأبواب، ويقولون: يا أهل المسجد؛ اخرجوا، وجعل نصر بن خزيمة يناديهم: يا أهل الكوفة؛ اخرجوا من الذل إلى العز، وإلى الدين والدنيا، قال: وجعل أهل الشام يرمونهم من فوق المسجد بالحجارة، وكانت يومئذ مناوشة بالكوفة ونواحيها، وقيل: في جبانة سالم.
وبعث يوسف بن عمر الريان بن سلمة في خيل إلى دار الرزق فقاتلوا زيدًا قتالًا شديدًا، وجرح من أهل الشام جرحى كثير، وشلهم أصحاب زيد من دار الرزق حتى انتهوا إلى المسجد الأعظم، فرجع أهل الشام مساء يوم الأربعاء وهم أسوأ شيء ظنّا.
فلما كان غداة يوم الخميس دعا يوسف بن عمر الريان بن سلمة فأفّف به فقال له: أف لك من صاحب خيل، ودعا العباس بن سعد المزني صاحب شرطته فبعثه إلى أهل الشام، فسار بهم حتى انتهوا إلى زيد بن علي عليه السلام في دار الرزق، وخرج إليه زيد بن علي وعلى ميمنته نصر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق، فلما رآهم العباس نادى: يا أهل الشام؛ (الأرض) فنزل ناس كثير واقتتلوا قتالًا شديدًا في المعركة، وكان من أهل الشام رجل من بني عبس يقال له: نائل بن فروة قال ليوسف: والله لئن ملأت عيني من نصر بن خزيمة لأقتلنه أو ليقتلني، فقال له يوسف: خذ هذا السيف فدفع إليه سيفًا لا يمر بشيء إلا قطعه، قال: فلما التقى أصحاب العباس بن سعد وأصحاب زيد أبصر نائل نصر بن خزيمة فضربه فقطع فخذه، وضربه نصر فقتله، ومات نصر رحمه الله.
ثم إن زيدًا عليه السلام هزمهم، وانصرفوا يومئذ بشر حال، ولما كان العشي عبَّأهم يوسف، ثم سرّحهم نحو زيد، فأقبلوا حتى التقوا فحمل عليهم زيد عليه السلام، فكشفهم ثم تبعهم حتى أخرجهم إلى السبخة ثم شد عليهم حتى أخرجهم من بني سليم، ثم أخذوا على المسنّات، ثم ظهر بهم زيد عليه السلام فيما بين بارق وبني رواس وقاتلهم قتالًا شديدًا، وصاحب لوائه رجل من بني سعد بن بكر يقال له: عبد الصمد.
قال سعيد بن خثيم فكنا مع زيد بن علي في خمسمائة، وأهل الشام اثنا عشر ألفًا، وقد كان بايع زيدًا عليه السلام أكثر من اثني عشر ألفًا فغدروا به – إذ فصل رجل من أهل الشام من كلب على فرس له رائع فلم يأل شتمًا لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل زيد عليه السلام يبكي حتى لثقت لحيته، وجعل يقول: أما أحد يغضب لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أما أحد يغضب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أما أحد يغضب لله تعالى، قال: ثم تحول الشامي عن فرسه فركب بغلة، قال: وكان الناس فرقتين نظارة ومقاتلة، قال سعيد: فجئت إلى مولى لي فأخذت منه مشتملًا كان معي، ثم استترت من خلف نظارة حتى إذا صرت من ورائه ضربت عنقه، وأنا مستمكن منه للمشمل فوقع رأسه بين يدي بغلته، ثم رميت جيفته من السرج، وشد أصحابه عليّ حتى كادوا يرهقوني فكبّر أصحاب زيد، وحملوا عليهم فاستنقذوني، فأتيت زيدًا عليه السلام وجعل يقبل بين عيني، ويقول: أدركت والله ثأرنا، أدركت والله شرف الدنيا والآخرة وذخرهما، اذهب بالبغلة فقد نفلتكها.
قال: وجعلت خيل الشام لا تثبت لخيل زيد عليه السلام فبعث العباس بن سعد إلى يوسف يعلمه ما يلقى من الزيدية ويسأله أن يبعث إليه بالناشبة، فبعث إليه سليمان بن كيسان في القيقانية وهم بخارية، وكانوا رماة فجعلوا يرمون أصحاب زيد، وقاتل معاوية بن إسحاق الأنصاري يومئذ قتالًا شديدًا فقتل بين يدي زيد عليه السلام وثبت زيد في أصحابه حتى إذا كان عند جنح الليل رمي زيد بسهم فأصاب جبهته اليسرى فنزا السهم في الدماغ، فرجع ورجع أصحابه ولا نظن أهل الشام رجعوا إلا للسماء والليل.