حكم الصلح مع الإنكار
السؤال
سؤال: أشكل علينا قول أهل المذهب: إن الصلح عن الإنكار لا يصح، وقولهم في القضاء: إنه يندب للحاكم الحث للخصمين على الصلح أولاً، وإن كان قد وجهه في التاج بأن يحثهم على الصلح بعد التصادق وثبوت الحق وإعلام من له الحق بثبوته، فيسقط شيئاً منه على جهة المسامحة؛ إلا أنه يشكل على هذا أن من علم أن الحق ثابت له لا يرضى بإسقاط شيء منه؟وقولهم: إن الحاكم يبادر إلى الصلح ما لم يتبين له الحق، فإذا تبين له الحق حكم به، فما قولكم في ذلك؟ مع أن أكثر الإصلاحات التي تجري على أيدي العلماء إنما تكون مع الإنكار.
الجواب
الجواب: الذي يظهر لي في المسألة أن الصلح مع الإنكار جائز، وهكذا مع التصادق على الحق المتنازع عليه، وأيضاً مع تبين الحق للحاكم؛ وذلك لأن الشارع حث على الفضل والتسامح والعفو والإحسان، {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: ٢٣٧]، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ٤٣}[الشورى].والكلام بالحق إنما هو إذا تعذر الفصل، وتشاحح الخصمان على محض الحق، ولم تطب أنفسهما بالتسامح، وقد رأى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجلاً يلازم آخر في دين ويطالبه بقضائه، فأشار صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الرجل بأن يأخذ نصف دينه ويضع النصف الآخر، فرضي الرجل، هذا معنى الرواية.وفي قصة محاكمة الزبير والأنصاري عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يدل على جواز الصلح مع تبين الحق للحاكم، وهكذا ما في قصة مصالحة سودة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنها تنازلت في هذا الصلح عن حق ثابت لها، وتنازل صلى الله عليه وآله وسلم عن حق ثابت له وهو الطلاق.
نعم، حديث: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً» لا يدخل فيه ما ذكرنا؛ إذ ليس فيه تحليل حرام أو تحريم حلال.
فإن للمالك أن يتنازل لخصمه أو لغيره عن حقه أو ملكه أو عن بعضهما، وللخصم أن يعطي من ماله ما شاء لمن يشاء من خصم أو غيره، وليس في ذلك شيء من تحريم الحلال أو تحليل الحرام.والصلح بذلك لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً، وإنما هو حث على فعل الإحسان والفضل الذي هو خير من المحاققة والمشاححة، وفيه السلامة من الأحقاد والضغائن، وفيه حل النزاع من غير أن يكون هناك غالب ومغلوب وقاهر ومقهور.
فالعادة أن المحكوم عليه يصاب بصدمة يعقبها أحقاد وضغائن على الحاكم والمحكوم له، ومن هنا قال شريح: أصبحت ونصف الناس علي غضبان، وبما ذكرنا يظهر أن الصلح خير وأفضل فيما ذكرنا.
وبه يظهر ضعف قول أهل المذهب في هذه المسألة، ويشهد على ضعفها أيضاً ما نراه كما ذكرتم من إصلاحات العلماء بين الناس مع الإنكار، والحمد لله رب العالمين.
📘 من ثمار (العلم والحكمة فتاوى، وفوائد )
للسيد العلامة الحجة محمد بن عبدالله عوض المؤيدي حفظه الله
- تصنيفات الموقع