(إنقاذ الغريق)
السؤال
سؤال: يقال: إنه يجب إنقاذ الغريق على من حضره ولو كان هذا الحاضر يخشى الغرق، فإن لم يفعل فتلزمه ديته؛ فما هو رأيكم في هذا؟
الجواب
الجواب والله الموفق: أن العقل يوجب إنقاذ من وقع في مهلكة الغرق أو غيره من المهالك، وهذا في الجملة، وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: ٣٢].والدليل على أن العقل يوجب ذلك: أنك ترى العقلاء يذمون من فرط في مثل ذلك غاية الذم، ويعيبونه على تفريطه غاية العيب، ولا يرونه بعد ذلك أهلاً للمصاحبة ويرونه ناقص الرجولية.والدليل الشرعي الذي يوجب ذلك: هو أن الله تعالى قد أوجب الإحسان للناس: إلى المؤمنين عموماً، وإلى الأقارب والجيران والأصحاب وغيرهم خصوصاً، فقال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ١٩٥}[البقرة]، وقال سبحانه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ... } الآية [النساء: ٣٦].وليس من الإحسان ترك الغريق يغرق، وترك الواقع في هلكة يهلك مع القدرة على استنقاذه من الغرق أو الهلكة. وهذا الواجب الذي يوجبه العقل
والشرع معاً إنما يجب بشرط القدرة عليه؛ لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: ٢٨٦]، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: ١٦].
فالذي يظهر لي بناءً على هذا: أن الحاضر على الغريق إذا خشي على نفسه الغرق بسبب أنه لا يحسن السباحة أو أنه يحسن السباحة قليلاً فإنه لا يجب عليه إنقاذه، وذلك أن الذي لا يحسن السباحة أو يحسنها قليلاً يخشى عليهما الغرق قطعاً، ولا يستطيع إنقاذ الغريق إلا الماهر في السباحة مهارة عالية؛ ففي مثل من ذكرنا لا يجب عليه إنقاذ الغريق، وإذا لم يجب عليه فلا تجب عليهما دية.
هذا، ولعل القائلين بوجوب الدية على مثل من ذكرنا نظروا إلى الظاهر؛ إذ أن الحاضر للغريق مفرط إذا لم يحاول إنقاذه، وهذا الحكم عليه بالتفريط إنما هو بحسب الظاهر، فإذا اعتذر بخشية التلف وعدم القدرة قلنا: ذلك دعوى غير مقبولة، وحجة مرفوضة؛ إذ أن شهادة المرء لنفسه لا تقبل، فدعوى الخشية من الغرق لا تبرر التفريط الظاهر.
هذا ما يمكن أن يوجه به قول القائلين بوجوب الدية على حاضر الغريق. غير أنه كان ينبغي أن الحاضر إذا أقام البينة العادلة على أنه لا يحسن السباحة ألّا يحكم عليه بالدية.
فإن قيل: كيف تجب الدية في هذا على من لم يقتل لا بالمباشرة ولا بالتسبيب.
قلنا: قد نزلوا هنا التفريط في إنقاذ الغريق منزلة السبب فأعطوه حكمه، ولعل ذلك كان من أجل المحافظة على ألَّا تذهب النفوس هدراً.
📘 من ثمار (العلم والحكمة فتاوى، وفوائد )
للسيد العلامة الحجة محمد بن عبدالله عوض المؤيدي حفظه الله
- تصنيفات الموقع